

الكاتبة الصحفية
سلوى علوان
الجمعة
29/11/2013
إلي بارئها صعدت روح زينة، ابنة الخمسة أعوام، إلي الله رحلت زينة، ابنتي وابنتك، ابنة هذا الوطن الذي صرنا ندهس كرامته وبراءته منذ الصباح حتي المساء، إلي الجنة خلدت عصفورة الجنة لتهدأ من خوفها وتنام نومتها الأخيرة.. إلي زينة، ضحية هذا الوجه القبيح للوطن.. أكتب.. صغيرتي وطفلتي.. ارحلي، نعم ارحلي، ليس لك بيننا مكان اليوم، لذا كان لزامًا عليكِ أن ترحلي، نعم، أدرك أني أعاني بأمومتي فجيعة فقدك ووجع بعادكِ، أعاني بآدميتي جريمة اغتيالك وقطع شريان عمرك الذي لم يتخط الخمسة أعوام لم تسجلي خلالها في دفتر يومياتك جملة غضب غير التي كتبتي بها نهايتك جبرًا. بأحلام الوطن وبسمات مستقبله جئتي فحملتك مثل العشب الأخضر وبقلبي أمنية صغري لكنها كانت وعاشت حلم حياتي، أن ينمو عشبي الأخضر يثمر أزهارًا، تفاحًا وغصون سلام، ويصير الجنة التي أحياها، وظللت بعشقي أرويك وأنت الزهر الأبيض، فيروزًا ونورًا ووهجًا وضياءً وقمرًا أضاء ظلامي وأشعل أملي أن يتحول وطني المظلم إلي وطن يحظي بالأفراح وبالضحكات.. إليك يا صغيرتي، أكتب عن وجعي، عن فقدي، عن ألمي، عن حلمي الذي بعثره الواقع سحقًا علي الطرقات حتي مات.. لا أستطيع أن أسألك اليوم لماذا تركتيني في وحدتي وقسوة زمني ورحلتي، فأنا أعرف جيدًا لماذا رحلتي.لم يكن زماننا هذا زمانك، لم تكن قلوبنا تستحق أن تعيشي بينها، تلك القلوب التي تربت علي الخطيئة واستحلال الظلم والجرم، لم تتحملي الحياة بيننا ونحن المذنبون الفاسدون الصامتون عن الحق كما الشياطين، تري، بماذا شعرت صغيرتي حينما اختطفوك من دارك في الظلام أبناء الظلام، كيف كانت رعشة جسدك، رجفة قلبك، كيف رأيت بعينيك البريئتين وجه من قتلوكِ، كيف كان حالك يا جميلة حينما طرحوا جسدك الغض أرضًا كي يغتالوا البسمة فوق الوجه المفعم بكل بسمات الحياة، كيف مر عليك الوقت وكم كان عمر الزمان في جوف الظلام؟! هل نظر وجهك الباكي إلي السماء الممتدة أمامك وناجيتي ربك بالنجاة، أم أن قاتلوك لم يتركوا لكِ فرصة للدعاء والاستغاثة، ٍٍلماذا لم تصرخ نيابة عنك النجوم في السماء لتخبر أهل الأرض كم نحن قساة، لماذا لم يضئ القمر ليلتها ظلمة قلوب قاتليك ربما تركوا لك مهلة للنجاة؟ لماذا لم يمنحك القدر فرصة للحياة؟كيف كان الجسد الغض يا صغيرتي يهوي في سراديب الليل؟ كيف قضيت زمنك ما بين الدور العاشر فوق سطح البيت حتي استسلمتي لبلاط الأرض، ما بين الحياة والموت، وهل لمحتي في شرفة بيتك أثناء سقوطك والديكِ وهما يهرولان بحثًا عنك في كل مكان، ألم تسمعي صوت أمك ينادي اسمك 'زينة، إنتي فين يا بنتي؟' لماذا لم تجيبيها، هل كمم الخوف صوتك أم كنتِ قد استسلمتي لقضائك بالموت بهذا الشكل المفجع حتي.. وصلتي إلي الأرض التي لم تحن عليك فنزفتي عطرًا وغضبًا وموتًا لتعلني أن قتلك قتل في ضمائرنا الحياء واغتال في وطننا الحياة؟أجيبي زينة، أجيبيني يا صغيرتي، مازالت ضحكاتك تسبح، ترنو في كل مكان في البيت وفي النادي وفي المدرسة وفي بيوت الأهل والأحباب والأصدقاء، لكن كل ضحكة بريئة نثرتيها في ربوع الكون صارت تطاردها صرخة أخري، صرخة تطالب بالقصاص من الوطن الذي ترك أمثال هؤلاء يعبثون بيننا، يغتالوننا ويسرقون أحلامنا ويغتصبون أعمارنا بشهادات تقدم للقضاء بقوانين وضعية صنعها بشر -خطاءون- مثلنا بينما تركنا القصاص الذي أوصي به لله، من قتل يقتل 'ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون'. قالها لله ـ سبحانه ـ فإن لم تسمع الضمائر ولا القلوب استغاثات زينة وهي تصرخ بين أيدي قاتليها تستصرخ قلوبهم وضمائرهم في الظلام، فهل نسمع نحن صوت لله؟ حين يقبل دفاع الجناة التدليس علي قتل زينة ومحاولة اغتصابها، وتقديم شهادات تفيد أن أحد هؤلاء الذئاب مريض نفسي، والآخر حدث- مجرد حدث- ليتنصلا من العقوبة والقصاص، فأي ضمائر تلك التي نحمل، وأي قلوب هذه التي بصدورنا؟!يا زينة.. اهدئي يا صغيرتي فقد صرت اليوم في أمان بين يدي لله، اهدئي يا جميلتي يا حلوتي فقد زال عنك اليوم خوفك وظلامك ورجفة جسدك ورعشة نبضك، فاهدئي، اتركي لنا تلك الحياة بقبحها ووجعها، دعينا نغتصب علي أيدي خونة الوطن وسارقيه وقاتليه الذين يعيشون ويتمددون بيننا لأننا لم نعد نثأر من جناة، غادرينا في سلام، ارحلي إلي حيث الخلود والنعيم والحياة الأبدية واتركينا بفقدنا وهمنا وعارنا.. لا تغضبي لأن لعبتك ها هنا تناديكِ وتسأل لماذا لم تعودي لتكملي لعبك معها، لا تحزني حينما تسمعي أختك الصغري تنادي باسمك وفي حجرتك تبحث عنك، لا تتألمي حينما تنظرين من وجه السماء فتجدين أمك تصرخ في الليل وهي فزعة حينما تراودها كوابيس فقدك وبشاعة مشهد رحيلك، لا تجزعي حينما يرسم أبوكِ صورك وينثرها فوق جدران الشوارع يطالب بالعدالة والقصاص، أنت اليوم في رحاب لله، لا تنظري بوجهك البريء الباسم باتجاه الأرض ففيها من القبح ما يكفي لحرمانك وأمثالك من الحق في الحياة. اترك غضبك لنا، اتركي وجعك لنا، اتركي فقدك لنا، بضع كلمات بخطك في كراسة الواجب الذي لم يكتمل بعد، ولن يكتمل، لعبة فوق سريرك تئن من البعاد، مكتبك، ملابس المدرسة، فستانك الأبيض الذي ارتديتيه أمس في عيد الميلاد، ارحلي ببراءتك واتركي لنا العار بالقوانين البشرية، وبالضمائر الغائبة كثيرًا والمغيبة دائمًا.. يا زينة، يا صغيرتي، يا حلوتي، حينما تدعوك الملائكة في السماء لتلعبي معهم لا تخافي، ففي السماء إلي جوار لله أنت في أمان، حينما تدعوك أمك أن تأتيها يومًا في حلم حين يئن قلبها شوقًا وحنينًا لكي، اذهبي إليها ولا تخافي فأنت اليوم قد صرتي بين يدي لله في أمان، حينما يناديكي أبوك أن تسامحي انتظاره القصاص بالقانون لا تغضبي، فهناك يومًا حتمًا سيأتي نقف فيه جميعًا بين يدي لله ليقتص منا بعدله وقوته ويمنحك حقك الذي انتزعناه منك في الحياة.. يا صغيرتي.. إن استصرخناك أن تسامحينا فلا تفعلي حتي لا نكرر جرمنا، إن توسلنا إليك أن تعفي عنا أمام لله أرجوك يا جميلتي لا تفعلي، فأمثالنا لا يستحقون عفوًا أو سماحًا.. امنحينا قدرًا من الغضب، من الوجع، من القسوة وبعض الانتقام، فنحن من قتلناك حينما تركنا أشباه البشر يعيشون ويعبثون في مصائرنا وأعمارنا.. عن زينة - ابنة بور سعيد-التي اغتالها اثنان من ذئاب البشر بعد اختطافها من أمام باب شقتها والصعود بها إلي سطح العقار وبعد فشلهما في اغتصابها ألقيا بها من فوق السطح بالدور العاشر حتي لا يفتضح أمرهما، أحدهما هو البواب والآخر جار لها، وفي الوقت الذي كانت فيه زينة تستصرخ ضميرهما الميتين وقلبيهما المصنوعين من الصخر كانت آذانهم أيضًا صماء حين عافر الجسد البريء بين أيديهما وهي تدافع عن شرف لم تتعلم معناه بعد، لكنها عرفته وأدركته بالفطرة فدافعت عنه حتي ماتت، زينة ابنة الأعوام الخمسة أدركت معني الشرف حتي الموت بينما قاتلاها لم يدركاه حتي الآن!قاتلا زينة هما الوجه القبيح لوطن صارت وحشيته وبغيه ونجاسة ذئابه تطارد براءة مستقبله وزهره حتي الاغتصاب والسرقة والقتل، فصار الدم المعطر ينزف بكل أرجاء وطن تفشي فساده وبطشه وظلمه وقسوته، أهل المتهمين ومحاميهما تقدما بشهادات طبية، الأولي للمتهم الأول تتحدث عن كونه حدثًَا لتقل مدة العقوبة عن الخطف ومحاولة الاغتصاب والقتل فتصبح وفقًا للقانون ثلاثة أعوام، أما الشهادة الثانية للمتهم الثاني فتقول إنه مريض نفسي!وبتوقيع الكشف الطبي علي المجرمين ثبت أنهما شاذان جنسيًا وباعترافهما أفادا أنهما قد مارسا الرذيلة معًا، فعن أي بشر نتحدث؟ وعن أي قتلة نحكي في وطننا؟!وهل وصلنا إلي هذا الحد من الجنون والانحطاط الأخلاقي والمجتمعي؟!عن زينة، الصغيرة البريئة التي أدمت ضمير المصريين، فخرج الآلاف من الشباب في عدد من محافظات مصر يطالبون بحقها في القصاص وبحق مثيلاتها في الأمان في وطنهم، وأنشأوا باسمها صفحات علي مواقع التواصل الاجتماعي، عن هذه 'الزينة البريئة' أكتب، وأبكي، وأسأل: متي نأتي بحقوق من قتلوا واغتيلوا واستشهدوا من أبناء هذا الوطن، أبطاله ورجاله وشبابه وصغاره الذين يغتالهم الإرهاب بكل أنواعه وأشكاله؟! العدالة البطيئة ظلم بيِّن، وأكرر قول لله تعالي 'ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون'.فمتي نتقي لله في أنفسنا وفي أعراضنا وفي أطفالنا ومستقبلنا ووطننا؟

الأحد 29/12/2013
'ناهد' زوجة نائب مساعد الوزير: زوجي لا يعرف الخوف.. وبمجرد إفاقته من الغيبوبة سأل: متي سيعود لعمله؟ والدة عادل: أخوه استلف عشان يشتغل في السعودية.. واستلف عشان يرجع يشوف أخوه.. ذنب الغلابة اللي زينا إيه؟!- والدة رضا: خدوا نور عيني ورجعوا لي ابني ماشي علي رجليه وبيشوف بعنيه.- 'محمد' ابن الشهيد السيد رأفت: أصعب حاجة إن الواحد يفقد 'أبوه' ضهره وأمانه وحمايته.- 'سلمي' ابنة الخمسة أعوام: أقول للي موتوا بابا 'ربنا ياخدكم'كلنا 'كفرة' ليس لنا دين, نعيش في مجتمع كافر, مؤسساتنا تدار بالكفر والظلم, أموالنا حلال لهم, أعراضنا, دماؤنا, ليس لنا في دينهم 'ديَّة' ولا ثمن, تعاملاتنا حرام, أبناؤنا لا قيمة لحياتهم ولا لكرامتهم, من حقهم أن يستبيحونا ليل نهار بكل أشكال العنف والقتل, وطننا بالنسبة لهم ليس إلا قطعة من الأرض يرغبون في السيطرة عليها وعلي خيراتها ومقدراتها وشعبها, علي الحدود ذبحوا إخوتنا وأبناءنا في مذبحة رفح الأولي والثانية ما بين 16 شهيدًا قتلوا غدرًا وقت إفطار رمضان, و25 آخرين تم تقييدهم وقتلهم بنفس الغدر, ومازالت الدماء الطاهرة لحراس الوطن تنزف وتسيل فوق رماله وترابه في سيناء والعريش ورفح وغيرها, وفي وسط المدينة زرعوا القنابل في الطرق بمدينة نصر ومصر الجديدة وإمبابة, وفي معسكر الأمن المركزي بالإسماعيلية وفي بورسعيد استهدفوا أبنائنا بمدافعهم, وأطلقوا رصاص غدرهم علي أتوبيس مدارس برفح وعلي دوريات وأكمنة الشرطة والجيش, إخوتنا وآبائنا وأبنائنا, مزقوا لحمنا ونحروا رقابنا في الشوارع, مثّلوا بجثامين أهلنا في كرداسة وفي رابعة وغيرها, فخخوا السيارات وفجّروا صدور رجالنا في مديرية أمن الدقهلية ليستشهد من ضباط مصر وجنودها سبعة عشر شهيدًا ويصاب أكثر من مائة جريح وتضار وتنهار مؤسسات الدولة وأيضًا أموال الناس الغلابة, دقوا طبول إرهابهم ليغتالوا الأمان في قلب وطن ذكره رب العالمين في كتابه أنه محفوظًا آمنًا.. فهل يعقلون؟!بهذه العقيدة عاشوا بيننا, وبذلك المنطق 'اللامنطقي' يتعاملون معنا, وأسأل كل من يعرف شخصًا ممن شاركوا في هذه الجريمة, وأسأل كل من يناصر فكرهم ويبارك خطواتهم, باسم أي إله تتحدثون؟! وبأي دينٍ تؤمنون, ولأي رب تصلون, بل أين هو الله الذي تدعون أنكم تعرفون؟! إلهنا رب يحرم الدم ويجرم حرمته: وإله كفركم أنتم من صنعتموه إله من شر وحقد لا يعرف سوي العداء والكراهية ولغة القتل والدم.. ابني وابنك, أخي وأخاُك, هم من استهدفهم القتلة السفاحون بدم بارد وقلوب من نار وغل, من استشهدوا ومن أصيبوا لم يكن لهم ذنب سوي أنهم يعيشون ويخدمون في وطن يعربد فيه كلاب هذا الزمن ويستبيحون دم أغلي من فيه فبأي دين يتحدثون؟ وبأي شريعة يتاجرون؟ وبأي ربٍ يؤمنون؟ إلهنا إله واحد تجمعت كل رسالاته إلينا -عز شأنه- من السماء بأن يرحم بعضنا بعضًا, بأن كل المسلم علي المسلم حرام.. دمه وماله وعرضه, وها نحن ننتهك في دمائنا وأموالنا وأعراضنا باسم الإسلام والإسلام –والله- هو منهم براء, ربنا هو الإله الواحد الذي لا نقدس سواه تتجلي رحمته فينا, وربهم هو شيطان يأمرهم بقتل الأبرياء وسفك الدماء وترويع الآمنين أطفالاً ونساءً وعجائز ورجالًا.. فهل أمام الله الرحمن الرحيم من إله؟!كان الحدث جللًا, كما هي الرجفة التي صرنا نعيشها مع كل مذبحة يذهلنا فيها كم الدماء التي تسيل, يصدمنا فيها حجم الوحشية التي نلقاها مع كل طريقة يتم بها الاغتيال والذبح والقتل بنفس الغدر والحقد والشر الذي يكنونه للوطن وأهله ودياناته, بمسلميه وأقباطه.. * في مستشفي الشرطة ذهبت إلي مستشفي الشرطة بالعجوزة محمومةً بوجعي, وجع مصر كلها, وداخلي تدور الكثير من الأسئلة التي تتكرر مع كل عمل إرهابي دنيء تعيشه مصر وأهلها: كيف حال المصابين؟ وكيف حال ذويهم؟ كيف رحل الشهداء؟ وما ذنبهم؟ وكيف حال ذويهم؟ وفي كل مرة أعيش فيها –مثل كل المصريين- تفاصيل النزف والجرح, أري إجاباتي دموعًا ونحيبًا وآلامًا لا تموت ولا تنتهي, صار الإرهاب مثل السوس الذي ينخر في عظام الوطن يأكل لحمه, لكن الإيمان بأن الشهيد حيّ, وأن الجريح بطل, وأن الله موجودٌ عدل عينه عز شأنه لا تغفل ولا تنام, هو الملاذ من الوجع, هو مفتاح الصبر والصمود والمقاومة حتي النصر, فنحن شعب صامد عبر التاريخ بنضاله وشموخه, سننتصر بالتأكيد علي عصابة خانت وخدعت حتي الكفر وحتي الضلال.. في الطريق إلي المستشفي كانت لافتة كبيرة معلقة في شارع التحرير بالدقي تحمل صورة الشهيد العميد عامر عبد المقصود, نائب مأمور قسم كرداسة الذي استشهد في مذبحة كرداسة الدامية, لافتة كتب عليها 'ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يُرزقون' بعض المصريين كانت هذه هي طريقتهم في التعبير عن تقديرهم وعرفانهم بالجميل لرجل فقد حياته وهو يؤدي واجبه في حمايتهم وحماية وطنهم.في غرفة الرعاية المركزة كان يرقد الرقيب سعد إبراهيم عبد الحميد, أحد مصابي حادث تفجير مديرية أمن الدقهلية, وجه شوهته نيران الحقد وجسد تفرقت فيه الجروح, عينان تغطيهما ضمادات طبية بيضاء, وقلبٌ سلم أمره لله, سعد تعرضت مقلتاه للانفجار, وخضع لجراحات ورتق لجراحه القطعية الغائرة بالرأس والجسد, سعد لديه ثلاثة أبناء, أكبرهم محمد عمره 11 سنة, وأميرة تسعة أعوام, وحبيبة عمرها سنة وأربعة أشهر, يعمل بمديرية أمن الدقهلية منذ أربعة أعوام بإدارة الحماية المدنية ضد أخطار الحريق, يقول سعد: يوم الحادثة كنا موجودين في الخدمة زي كل يوم وفجأة تزامن صوت انفجار مع هزة جامدة حصلت طيرتنا من علي الكراسي أنا وزمايلي, لقينا نفسنا بنطير في الهوا ونرجع نخبط في الأرض والرخام بيتكسر من الحيط والسيراميك من الأرض ويطير فوقنا, كنت بتخبط بوشي علي الأرض وأطير تاني في الهوا ومش قادر أتحكم في نفسي وشايف زمايلي قدامي بيحصل معاهم اللي بيحصل لي وفضلت أردد في الشهادة وسامع الصراخ حواليا لحد ما الدنيا ضلمت ومبقتش شايف حاجة خالص, سمعت أصوات ناس بيسألوني: انت منين؟ قلت لهم: خدمة في المديرية، أخدوني لمستشفي المنصورة ومنها وصلت لمستشفي الشرطة, ومن ساعتها مش شايف حاجة ومش عارف إذا كنت هقدر أشوف تاني بعنيا واللا لأ.. يضيف سعد: 'العربية اللي انفجرت في المديرية دخلت من ناحية الباب الخلفي اللي كنت قاعد عنده, شفتها اخترقت الصدادات والحاجز الأمني اللي كان موجود ودخلت, اللي عرفته بعد كده إنها دمرت جزء من المسرح الموجود جنب المديرية والمحلات كمان بتاعة الناس, لولا ستر ربنا كانت ممكن توصل لديزل الكهربا جوا المديرية وكانت فجرت المبني بالكامل والبنزينة اللي جانبه كمان'.وبصوت منخفض يقول سعد: 'يا ريت ينقلوها من جنب المديرية' يقصد البنزينة, خيِّل إليَّ أن سعد يتوقع هجومًا آخر يخشي أن يكون أكبر بسبب وجود البنزينة بجوار المديرية لذلك تمني نقلها, اختتم سعد كلامه قائلاً: حسبي الله ونعم الوكيل في اللي بيعملوا كده فينا, في رمضان اللي فات كنت في النوبتجية وفوجئت بوجود قنبلة في الشارع جنب المديرية, أنا اللي اتصلت بإدارة المفرقعات, شفت حوادث كتير وأنقذت أنا وزمايلي ناس كتير بس مشفتش عمري إجرام بالقسوة دي, بقول للناس: خلوا بالكم من نفسكم واقفوا مع ولادكم من الجيش والشرطة عشان نقدر عليهم ونقدر نوقف بلدنا علي رجليها من تاني.أيمن سليمان, أمين شرطة كان يرقد في إحدي غرف المستشفي ذاته, مربوط اليدين بأربطة طبية, يحمل نفس الوجه الذي أحرقته النيران, ونفس الجراح بالجسد, إلا أن أيمن لم تكن لديه القدرة علي الكلام بعد أن أصيب فكه باعوجاج مما يفقده القدرة علي التحدث, لكنه بصعوبة بالغة أخبرني أن زميله هيثم قد استشهد في الحادث.* دموعك غالية يا أميعلي الأرض في أحد أركان الممر أمام غرفة الرعاية بمستشفي المعادي, جلست في ثوبها الريفي البسيط, ووجهها منتحبًا بالبكاء حتي صار مثل جمرة النار من شدة حمرة وجعه وألمه وكمده, قالت: 'ابني عادل إبراهيم المغاوري, عنده أربع بنات يا بنتي, شوفي دي أكبرهم - وأشارت إلي طفلة صغيرة لا يتعدي عمرها ستة أعوام تبكي في حالة هلع- ثم أضافت: منهم لله يا بنتي, دول لا مسلمين ولا يعرفوا دين, لو ابني حصل له حاجة بناته هيروحوا فين؟تقول والدة عادل: وقت الخبر كنت نايمة, لقيت بنتي بتتصل تسألني علي أخوها وبتبلغني إن المديرية اتضربت, أول ما قفلت التليفون لقيته بيرن, واحد بيسألني: انتي والدة عادل؟ قلت له: أيوه يا ابني, طمني عادل حصل له حاجة؟- عادل مصاب ومحتاج دم ضروريجريت أنا وأبوه واخواته علي مستشفي المنصورة في الطريق فضلت أصرخ وأبكي وادعي ربنا ان ابني يكون عايش, دخلت المستشفي لقيت شباب كتير غرقانين في دمهم مقدرتش أميِّز ابني منهم, كلهم كانت وشوشهم غرقانة دم، ملامحهم مش باينة لحد, عرفت ابني من جزمته, حسيت رجليا مش شايلاني كنت عاوزة أعرف إذا كان عايش واللا ميت, الدنيا دارت بيا بس مصر شعبها حلو أوي وفيه الخير, الناس كانت بتتسابق عشان يساعدونا احنا وغيرنا, اللي يشتري قطن واللي يشتري شاش وخيط وبطاطين, مصر حلوة وناسها ولاد حلال إلا دول, الكفرة اللي ميعرفوش لا رب ولا رحمة ولا دين, ذنبهم إيه الناس الغلابة اللي عيالها ماتت, ذنبهم إيه اللي زينا اللي ملهومش في حاجة, ربنا يخلص حقنا منهم, حق الغلابة, الغلابة اللي راحوا يا حبيبتي.ذنبه إيه أخوه اللي ضاقت بيه الدنيا في بلده واستلف فلوس عشان يسافر السعودية يدور علي شغل بعد سفره بكام يوم عرف الخبر من التليفزيون ومكنش معاه فلوس يرجع لحد ما زمايله هناك جمعوا فلوس من بعضهم عشان ييجي يشوف أخوه, يعني سلف وهو رايح وقبل ما يشتغل استلف تاني عشان يرجع, ذنبنا إيه احنا الغلابة في اللي بيحصل ده؟ إحنا ناس علي قد حالنا من قرية اسمها البقلية في المنصورة لا لينا في التور ولا في الطحين, وربنا عالم بينا, لازم يبقي فيه حل يحمي ولادنا ويحمينا, مش هنضيع حق شبابنا ولا هنسيب دمهم, ذنبنا إيه نأجر كل يوم عربية من المنصورة للقاهرة عشان نطمن علي ابننا, الناس خلاص اكتفت.عاوزة أقول للكفرة دول: يا رب تشوفوا في عيالكم اللي شفناه في عيالنا بسببكم, عشان تعرفوا الضنا غالي قد إيه, دول مش اسمهم الإخوان دول اسمهم الخاينين الظلمة الكفرة, بيكفرونا ليه؟ دا احنا مسلمين وموحدين بالله طول عمرنا؟ابني وضنايا ونور عيني في المستشفي, قلت لهم خدوا عينيا الاتنين وهاتولي ابني تاني.أما شقيق عادل الذي عاد مديونًا فوق دينه من السعودية فيقول: كنت أقيم في الطائف وفور وقوع الحادث جاء الجميع لمؤازرتي وزيارتي من جدة والمدينة, وقفوا جانبي وساعدوني الكل بيقول عليهم كفرة ومعندهمش دين ولا قلب.ظلت دموعها المنهمرة جرحًا يدمي القلب, وددت لو أعود لضمها مرةً أخري إلي صدري, وددت أن أقول لها: دموعك غالية يا أمي, لعن الله من لم يرحمها.** في غرفة الرعاية, راح رضا في غيبوبته لعدة أيام, حتي أفاق واسترد وعيه, إلا أن حالته مازالت حرجة, جروح غائرة بالوجه وإصابة بالغة العينين.مجند رضا جمال أحمد, عمره 20 سنة, يقول شقيقه أشرف في وصفه لوقت الحادث: المشهد في المستشفي كان يصعب ع الكافر, جنود وضباط ومدنيين كلهم مصابين إصابات بالغة غرقانين في دمهم, صراخ وعويل في كل مكان, ناس فقدت ولادها وناس مش لقياهم, عمومًا كنا متوقعين حاجة زي كده تحصل مع الكلام عن الدستور لكن مكناش فاكرين انه هيبقي بالبشاعة دي, لما رضا فاق من الغيبوبة أول حاجة قالها: الحمد لله, وحكي لي إنه كان قاعد في العربية منتظر الشهيد المقدم السيد رأفت في العربية وفجأة حصل الانفجار.رضا فقد عينه اليمني, وأصيب بجروح بالغة في الساقين والجسد وقطع في أوتار اليد اليمني.أما والدة رضا فقد بدأت حديثها قائلة: حسبي الله ونعم الوكيل, احنا ناس غلابة من البحيرة, من غرب النوبارية, عرفنا الخبر من التليفزيون وشفت ابني علي الشاشة بس معرفتوش, كان متبهدل أوي, عرفته لما شفت أخوه واقف جنبه, عمري ما توقعت إن ده هيحصل معاه, هو عمل إيه, ده رايح يخدم بلده, هما اللي ناس معندهمش قلب ولا دين, الناس الغلابة اللي زي حالتنا يعملوا إيه, ثم بكت وهي تستطرد حديثها قائلة: برضه لما رحت لابني في المستشفي مكنتش عارفاه, قالولنا آخر سرير, وشه متبهدل ومربط وعنيه وجسمه ورجليه, أنا وأبوه فقدنا أعصابنا وانهرنا, بقيت أكلمه وأقوله 'يا رضا رد عليا, احنا جانبك يا حبيبي' مكنش واعي, كان نفسنا يرد علينا, بس مردش.رضا خاطب بنت خالته, كان هيتجوز في العيد الصغير, كل اللي محتاجاه ابني يرجع لي زي ما خرج ماشي علي رجليه وشايف بعنيه, عاوزة أقوله: انت نور عنينا يا رضا, ارجع لي يا ابني بقي حلو وزي القمر زي ما كنت في عيني طول عمرك يا حبيبي.أيمن, شقيق رضا الأكبر, مدرس تاريخ, يطالب الدولة بأن تسرع في نشر تعاليم الدين السمح بما يليق بمكانة وسماحة ديننا وأن توجه الدعاة المعتدلين لنشر تعاليم الدين الصحيح وتعليمه لشبابنا وأبنائنا.* زوجة نائب مدير الأمنعلي باب غرفة الرعاية وقفت متماسكة صامدة رغم عيونها الممتلئة بالدموع وملامحها التي يكسوها القلق, هي السيدة ناهد محمد عبد القادر, زوجة اللواء محمد عبد الرازق قدري, مساعد مدير الأمن العام للمباحث الجنائية بشرق الدلتا, أصيب زوجها بجروح قطعية بالغة بالرأس والوجه والأذن والكتفين, فقد سقط فوقه سقف مكتبه وقت الانفجار, اللواء قدري مازال تحت الملاحظة في حالة حرجة, لديه ثلاثة أبناء, أصغرهم سيف, بالمرحلة الإعدادية, ترك أمه وأقاربه وابتعد بضع خطوات حتي لا يري أحد دموعه, تقول السيدة ناهد: وقع الحادث في ساعة متأخرة من الليل, كنت نائمة وفوجئت باتصال من إحدي صديقاتي تخبرني بأن هناك مشاكل عند مديرية الأمن, نزل ابني الأكبر مسرعًا ليطمئن علي والده, وظللت أتصل بهاتفه لكنه لم يرد, كنا قد تحدثنا قبل الحادث بحوالي نصف ساعة فقط, ووعدني بإحضار موبايل لابني الأوسط لأنه فقد موبايله, كنا نعرف أن هناك استهدافًا لرجال الشرطة وحوادث يتعرضون لها لكن ما حدث في المديرية لم نره إلا في فلسطين أو العراق ولم نتوقعه في مصر.تضيف زوجة اللواء محمد قدري: والله احنا مش خايفين, ولا هو خاف ولا مرة واحدة, لدرجة أنه كان يرفض ارتداء القميص الواقي من الرصاص هو وزملاؤه, كانوا يقولون إن اللي ليهم نصيب فيه هيشوفوه, واللي عاوزه ربنا هيكون, وربنا هو الحافظ, كان دايمًا يقول لي انهم مابيخافوش, وزرع الشجاعة والجرأة في قلب ولادنا, ابني الكبير كان لسه في سنة أولي كلية الشرطة وقت ثورة يناير, كان بياخد سلاحه وينزل الشارع بالترننج هو وزمايله يلفوا المدينة عشان يحموها ويحموا ناسها, كان وقتها مينفعش يلبسوا لبس الشرطة لأنها برضه كانت مستهدفة, أبوه علمه ميخافش هو وإخواته, واتعلمت منهم القوة لحد ما بقيت أنا كمان مبخافش, حتي اللي حصل ده رغم مرارته مخلناش نخاف بالعكس زادنا قوة, أول ما محمد فاق من غيبوبته سأل: امتي يقدر يرجع شغله, قال لي: هكمل ومحدش هيخوفني, اللي يقدر يشغل قسم كامل وهو عمره 20 سنة ويفضل طول عمره في مواجهات مستحيل يرجع أو يخاف, الجبان مش اللي بيقفوا في وسط الناس في الشارع عشان يحموهم, الجبان هو اللي بيضرب ويستخبي زي الفيران في الجحور, موت بموت, بس مفيش أحسن من ان الواحد يموت شهيد.. زمايله الضباط الصغيرين لما بييجوا لزيارته بيوعدوه إنهم مكملين لحد ما يقضوا علي الإرهاب ويرجعوا الأمان للبلد, بس المشكلة أن مجهودهم بقي أضعاف مجهودهم قبل كده خصوصًا بعد موضوع فتح السجون أيام ثورة يناير وخروج الآلاف من المجرمين, ده غير العفو اللي صدر في عهد المعزول, مين يقدر يشتغل زي الضابط اللي بيواصل في الشارع 24 ساعة في ظروف سيئة في كل حاجة, لا الضباط بيخافوا ولا زوجاتهم ولا حتي ولادهم, اللي عملوا كده أكيد ربنا هينتقم منهم, اللي يعرف الضباط بيتعبوا قد إيه يقدر قيمتهم, محمد لما كان بيستعد يروح مهمة وكنت أكلمه في حاجة مكنش يركز معايا كل تركيزه كان في المهمة اللي رايح عشانها, ودايمًا يكون في الصفوف الأولي في المواجهة, عشان كده ربنا هينجيه هو واللي زيه وهينصرهم علي أعداء بلدنا.* أنا ابن الشهيد البطلعمره ثلاثة عشر عامًا, هو ابن الشهيد المقدم السيد محمد رأفت الذي استشهد في حادث مديرية أمن الدقهلية, صغير هو في السن لكنه رجل بكل ما تحمله الكلمة من معان, بفطرة الطفولة وبراءتها, وبصبر الرجال وحكمتهم, بدموع عزيزة أبت أن تسيل حتي يظل متماسكًا أمام أمه واخوته يحكي محمد عن ليلة استشهاد والده فيقول: كنت نائمًا ولم تخبرني أمي وقت وقوع الحادث, وانتظرت حتي السابعة من صباح اليوم التالي كي لا يفزعني الخبر, وفي الصباح جاءت لتوقظني بدموع غزيرة ووجه حزين, ثم تركتني ولم تقو علي إخباري, جاء ابن خالتي وجلس إلي جواري بينما كنت في حالة ذهول من المشهد الذي لم أعرف له سببًا وقتها, قال لي ابن خالتي إن والدي استشهد في حادث تفجير المديرية, لم أصدقه, وظننته يمازحني, وغضبت منه, فأصر علي صحة الخبر فشعرت بأن رأسي تدور ولم أدرك ما إذا كنت قد استيقظت أم أني مازالت نائمًا يراودني كابوس سوف أصحو منه.. يكمل محمد حديثه في عزة نفس منعته من البكاء حين اختنقت دموعه في حلقه: بابا كل الناس كانت بتحبه, زمايله وأهله, مكنش بيتأخر علي حد في حاجة, بس الفترة الأخيرة كان زعلان إننا بننزل من البيت كتير وهو خايف علينا بعد ما شاف حادثة الإخوان لما ذبحوا السواق, مكنش طايق الوضع وكان عنده اصرار يرجع الأمان للبلد تاني, وقت أحداث كرداسة كان بيقول علي زمايله اللي استشهدوا 'يا بختهم' كان نفسه ينول الشهادة زيهم, وربنا منحها له.. آخر مرة شفته فيها وهو نازل الشغل حوالي الساعة 9 مساء يوم الحادث, كان نازل مستعجل, ملحقتش أسلم عليه, يومها سلمي أختي, عمرها 5 سنين, طلبت تروح معاه الشغل, لما قالها مينفعش أنا خايف عليكي زعلت أوي, قالها بكره هبقي أخدك معايا, ومشي, وبالليل سمعت ماما وهي بتتكلم عن الحادثة وعن بابا قعدت تسأل عليه, لحد ما عرفت انه استشهد, سلمي بتقول 'لو كنت رحت كان زماني مت مع بابا, يوم الحادثة بالليل كنا خمسة والصبح بقينا أربعة, لو كنت رحت كنتوا بقيتوا تلاتة'يقول محمد: جنازة بابا كان فيها أكتر من 4 آلاف شخص, أمي مقدرتش تودعه آخر وداع, حتي أنا مكنتش قادر أوصل معاه والناس قعدوا يعدوني من الزحمة لحد ما وصلت وشفت الصندوق اللي فيه بابا قبل الدفن, مش قادر أقولك الدنيا بقت إزاي بعد غياب بابا, بس حاسس إنها بقت صعبة أوي, وهتبقي أصعب بعد كده, تفرق لما يبقي الواحد باباه ضهره وأمانه وحمايته عايش عن إنه يبقي من غير ضهر, أصحابه وأهلي قالوا لي لو عاوز حاجة احنا تحت أمرك, بس بابا وجوده طبعًا يفرق كتير عن الدنيا كلها.في الآخر هقول الحمد لله إن بابا نال الشهادة اللي كان نفسه فيها, بس الفراق صعب أوي.. النهارده كان عندنا ناس من الوزارة, منحوا أبويا درع الشهيد, أنا فخور بيه أوي, وفرحان إن أبويا بطل وعارف إنه حي في السما وشايفني وهعمل كل الحاجات اللي تفرحه.يااااه يا محمد, زودت الوجع في القلب, زي ما زرعت في الضلمة نور, دموعك مخنوقة بس كلمتك مدروسة وإحساسك يعلم إزاي تكون الرجولة وإزاي يكون الصبر وإزاي يكون الصمود.. هكذا يا ولدي يكون أبناء الأبطال.. راجل من ضهر راجل يا محمد.. أما سلمي, ابنة الأعوام الخمسة فهي ذكية ولبقة وخفيفة الظل, حكاية أخري يحكي عنها، عن سلالة الأبطال, قالت سلمي: عاوزة أقول لبابا ربنا يرحمك, و.. وحشتني أوي, كنت هروح معاه الشغل مرضيش ولما زعلت قال لي طيب هخدك بكره الصبح, بعد كده هو مخدنيش, وراح لوحده.. بابايا بطل, وأنا عارفه إنه شايفني, بس أنا نفسي أشوفه، اشمعني هو بس اللي يشوفني, ما هو كمان واحشني.. وبقول للي موتوا بابا: 'ربنا ياخدكم'. الشهيد المقدم السيد محمد رأفت, الشهيد العقيد سامح أحمد السعودي, الشهيد الرقيب سعد مصطفي المرسي, الشهيد المجند يونس أبو المعاطي محمد, الشهيد المجند محمد صابر أحمد, الشهيد المجند يوسف مغاوري عيسي, الشهيد المجند أحمد صبحي حافظ, الشهيد المجند محمد عبد العزيز عبد الكريم.. وغيرهم رحلوا في حادث الدقهلية, وما زالت دماء أبنائنا تسيل قربانًا لحرية الوطن.. ' وإن كان في أرضك مات شهيد, فيه ألف غيره بيتولد.. فيه ألف غيره بيتولد'
'أسبوع' من الأحداث الساخنة جري علي أرض مصر
من أين أبدأ؟
هكذا سألت نفسي وقت الشروع في الكتابة, فالأحداث متلاحقة ومتتالية ومتسارعة بشكلا ينهك أي صحفي كما ينهك أي وطن, من أين أبدأ؟
من بداية الأسبوع حيث تفجير مديرية أمن القاهرة الذي رصدته فور وقوع الحادث ومررت خلال سيري العديد من المشاهد التي تستحق النشر, أم أبدأ من حيث محاكمة 'المعزول مرسي' وعشيرته؟, أم من حيث خطف الدبلوماسيين المصريين في ليبيا ووقائع ما جري لهم؟ أم من حيث التفجيرات المتتالية والقنابل المتناثرة والاغتيالات لأبناء الجيش والشرطة, لأبناء الوطن؟.. ** من أكثر الموضوعات صعوبة, وأشدها قسوة, وأكثرها تفاصيل يملؤها الألم والوجع وأحيانًا الدهشة, فها هو الوطن نضع أيامه القليلة الماضية تحت المجهر- بعض الشيء- نسرد بعضًا من أحداثه وتفاصيله ومجريات أموره التي وقعت علي أرضه هذا الأسبوع, أسبوع واحد فقط شهد الكثير من القضايا والمحاكمات, نرصد القضايا التي هزت مصر علي المستوي السياسي والإنساني, في هذه السطور التالية, نحكي عن المشهد العام في مصر.. استقر بي الأمر في النهاية أن أسرد رحلتي في شوارع مصر - ترتيبًا- قدر الإمكان.. صباحٌ جاء بوجعه ودهشته, حين استيقظت مصر علي حادث تفجير مديرية أمن القاهرة, حملت أوراقي وتوجهت إلي حيث موقع الانفجار, كان المشهد مفزعًا, هو نفسه ما حدث لمديرية أمن الدقهلية منذ أيام وراح ضحيته العشرات من الشهداء والمصابين من المواطنين ورجال الشرطة, هو نفسه المشهد يتكرر وبنفس طريقة التفجير!!الكثير من المصريين يحتشدون ويتظاهرون حول المكان, العديد من الدراجات البخارية تنتظر بجوار الحواجز التي وضعت علي مشارف مبني المديرية.. سألت عددًا من سائقي الدراجات البخارية: واقفين هنا ليه؟ فأجابوا أنهم متطوعون لإنقاذ المصابين الذين سقطوا من رجال الأمن, وأنهم توجهوا إلي المكان فور سماعهم دوي الإنفجار في السادسة صباحًا, وأنهم بالفعل استطاعوا إنقاذ الكثيرين من أفراد الشرطة الذين تناثرت أجسادهم داخل المبني وفي الشارع, قال أحدهم ويدعي: عصام محمد كامل: 'العساكر كانت في حالة سيئة, والناس خارجة مفزوعة بتصرخ من البيوت, افتكرنا البيوت بتقع, كان فيه عساكر مرمية وفوقها السور الحديد بتاع المديرية وسور خرسانة وقع من السطوح, قدرنا نطلع واحد صاحي رجله مقطوعة ونوصله المستشفي, بس كنا مضطرين ندوس علي جثث اللي ماتوا عشان نقدر نوصل للي لسه فيهم الروح ونلحقهم, مش عارف منين ربنا منحنا القدرة والصبر نتحمل المناظر دي لحد ما خلصنا مهمتنا'.وبغضب شديد تساءل عصام: 'عاوز أسأل وزير الداخلية, يا باشا انت مش قلت انك عندك أسلحة ثقيلة للناس دي, وان اللي عاوز يتفرج ييجي ناحية أي قسم شرطة, طب أهم جولك عند مديرية أمن القاهرة عملت لهم إيه؟ عاوزين نفهم انتوا قد الناس دي ولا لأ, عاوز أسأل رئيس الوزراء ليه مفيش محاكمات عاجلة للناس اللي ولادها بتتقتل كل يوم والتاني, العيال اللي اترموا من فوق السطح في اسكندرية والجنود اللي اتقتلوا ع الحدود وغيرهم كتير فين نتايج المحاكمات بتاعتهم, لو مش هتحاكموهم انتم احنا اللي هنحاكمهم, مش هتعدموهم احنا هنعدمهم, مش عارفين تخلصونا منهم احنا هنخلص نفسنا, عاوزين نشوف نتايج ع الأرض, عاوزين حق اللي ماتوا وحماية اللي لسه عايش, مش دي العدالة يا بلد؟!'استوقفني شيخٌ جليل ذو لحية وجلباب, قال بسماحة: عندي كلمتين يا بنتي عاوزة أقولهم لك توصليهم للناس.. - اسمك إيه يا شيخنا؟- سيد شعبان, عمري 54 سنة, عاوز أقول إن الأمن مش مقصر, بس تعبوا, أجهزة الأمن مستهدفة وقاصدين يجهدوها ويهدوها, عشان كده مطلوب من كل مصري يبقي عين حارس علي بلده وأمن بلده, لما يعرف معلومة ميخافش يقولها ويبلغ عنها, وفي المقابل لازم يلاقي ودن تسمع ليه وتهتم مش تليفونات تتنشر ع الفاضي للي عنده معلومات ومحدش يهتم بكلام الناس, كل كلمة لازم يتحقق فيها ويتعرف أولها من آخرها حتي لو كانت معلومة تافهة, عاوز أقول للناس وللحكومة ولشيخ الأزهر إن مفيش حاجة اسمها أحزاب دينية, ان كل الجماعات الإسلامية الموجودة كلها نتاج لجماعة الإخوان المسلمين, نفس الطريقة ونفس الهدف لو انخدعنا فيهم هنضيع, اللي عنده حرف من دين ميعملش حزب سياسي, ولا جماعة, لو حد درس كتاب الله صح منهم كان عمل بيه, كان عرف إن كل المسلم علي المسلم حرام, دمه وماله وعرضه, وإن أهل الذمة والكتاب وحتي الكفرة دول في حمايتنا طالما احتموا فينا وعاشوا معانا, مش المسلم يقتل أخوه ويستبيح دمه, عشان سكتنا علي قتل الـ 16 راح الـ 25, لما طلع واحد من المدعين علي المنصة في رابعة ادعي ان الرسول 'ص' جاله في المنام وطلب منه إن مرسي هو اللي يكون إمام بدل منه في الصلاة, والغريب إن مفيش عاقل من اللي واقفين في رابعة يرد عليه ويوقله 'خسئت' هو فيه أعظم من رسول الله, كل اللي واقفين كلهم مغيبين, هو مجنون واللي معاه أجن منه راحوا مكبرين!كل اللي باطلبه من الحكومة والناس والإعلام, يغيروا لنا الوشوش اللي بتطلع دي, ارحموا الناس من التوهة اللي بتحصل لهم, الشيوخ يطلعوا كل همهم الفلوس والسياسيين يطلعوا كل همهم المناصب, والناس تعبت.. طلب أخير لوزير الدفاع ووزير الداخلية أنا عاوز أتطوع للخدمة في بلدي, عاوز أحرس أي مكان عشان أحس إني باحمي بلدي, وهفضل أمشي أكلم الناس في الشارع أعرفهم حقيقة اللي بيحصل, وأوعيهم مينخدعوش بكلام يتنسب لله وللدين, حتي لو قالوا عليّ مخبول.. ' بكي الشيخ سيد وهو يحكي عما شاهده وهم يجمعون 'لحم' العساكر المتناثر فوق أرض مصر'هشام الزيني, محصل بشركة الكهرباء, مصري آخر جلس ينتظر دور يؤديه فوق دراجته البخارية, سأل سؤاله في عبارة واحدة 'أخطر حتة ضربوها, مديرية أمن القاهرة, فاضل إيه؟!' رد عليه المهندس محمد علي قائلاً: الانفجار حصل وقت تبديل نوبتجية الأكمنة, فسارع هشام: يا بيه المفروض احنا في وقت قلق, يعني الكمين الأول مينفعش يمشي قبل ما يقف مكانه اللي بعده'تركتهم يتبادلون النقاش ومضيت, فالرحلة مازالت طويلة في دهاليز الحدث, كانت هناك مجموعات منتشرة من البشر يملئون محيط المديرية رغم الحواجز الحديدية التي وضعها رجال الشرطة والدفاع المدني, اخترقت الحاجز ودخلت لأكون أقرب إلي موقع الانفجار, إلي حيث الحفرة التي نجمت عنه باتساع يصل إلي نحو الستة أمتار, استوقفني رجال الأمن: 'يا أستاذة رايحة فين, ممنوع الدخول' فقلت: أريد الضابط المسئول هنا, فنادي أحدهم عليه, جاء يقول: ممنوع يا أستاذة التواجد هنا, إحنا خايفين عليكي, فقلت: حضرتك هنا بتشوف شغلك, صح؟ فأجاب: أيوة, قلت: أنا كمان يا فندم بشوف شغلي, قال: بس احنا خايفين عليكم, فأجبت: أشكرك, بس أنا مش أحسن من اللي ماتوا ولا من اللي موجودين دلوقتي داخل المبني من رجال الشرطة أو الدفاع المدني ورجال البحث الجنائي, فقال: سألتقط بعض الصور للمكان وما آل إليه, ولتسمح لي بجولة في محيط المكان وداخله, أجاب: إذا كان علي جولة في محيط المكان والتقاط صور, اتفضلي لكن أعذريني لا أستطيع السماح بالدخول إلي المكان فنحن لا نعرف إلي أي وضع يصل به الحال وما إذا كان سينهار في أية لحظة'.باءت محاولاتي لدخول المديرية بالفشل, واضطررت بالاكتفاء بإنجاز مهمتي خارج المبني, كان المشهد شديد الصعوبة ففي ذاكرتي تقبع جلالة ذلك المبني وهيبته, فكيف يصل بنا الأمر إلي ذلك المشهد الرهيب, حفرة عميقة أمام المبني أحدثها الانفجار يحاول بعض العمال شفط المياه منها بعد انفجار ماسورة مياه أغرقت الشارع بأكمله, المبني بكامله صار كما لو كان مهجورًا منذ زمن بعيد, أسقف سقطت, وأسوار تهدمت, وزجاج وأخشاب وأثاث مكتبي وسور كبير لسطح المبني, كل هذه تحولت إلي فتات متناثرة يعلوها الخراب والدمار في كل مكان, وبقي في خلفيتي أصوات المتظاهرين في محيط المكان يعيد ذاكرتي إلي الواقع, إلي ما أصبحت عليه مصر بفعل الخيانة والعمالة وأطماع السلطة, أعادني صوت الناس إلي حيث أقف أمام مديرية أمن القاهرة, وهم يهتفون في غضب, رجالاً ونساءً وحتي أطفال, وكان بينهم عم الشيخ سيد: 'يا نجيب حقهم, يا نموت زيهم'.هو نفسه الهتاف الذي أسمعه ويملأ أذني مراراً وتكرارًا منذ 25 يناير 2011, هو نفسه الهتاف الذي نسير به في جنازات أبنائنا وأبطالنا وصغارنا, هو نفسه الهتاف الذي قاله المصريون حينما استشهد الثوار في التحرير بفعل الخيانات والمدسوسين, حينما اندلعت أحداث محمد محمود الأولي والثانية والثالثة وأحداث مجلس الوزراء وأحداث ماسبيرو, حينما كان الطرف الثالث هو اللاعب المحرك للأحداث في مصر فلا نعرف من كان يقف يهتف معنا هتافنا ويرفع نيرانه علي بعد بضع سنتيمترات ليقتلنا كما قتل الشيخ عماد عفت والدكتور علاء عبد الهادي من مسافات قريبة لم تكن للشرطة القدرة علي الاقتراب من المتظاهرين وإصابتهم من تلك المسافات, ليرحل الشهداء فرادي وجماعات تاركين لنا في كل مرة الآلاف من علامات الاستفهام والحيرة والدهشة, فمن بادر بالقتل في واقعة ماسبيرو كانوا بضعة مسلحين ملثمين كانوا أعلي فوق كوبري 6 أكتوبر وقتها ظن الطرفان 'متظاهرون وقوات جيش' أن الآخر يبادر بإطلاق النار عليه, فبدأ بالدفاع عن نفسه وحدثت وقيعة ماسبيرو التي لم تتكشف تفاصيلها بوضوح للناس حتي الآن, وفي مجزرة بور سعيد كان لنا نفس الهتاف 'يا نجيب حقهم, يا نموت زيهم' حينما أطفئت أضواء الاستاد ليذبح شبابنا وأطفالنا بيد الغدر في الظلام, وحينما حكم علي بعض البلطجية ممن تم استخدامهم لتنفيذ مخطط القتل كانت مذبحة بور سعيد الثانية التي كان من أبرز شهدائها النقيب أحمد البلكي الذي أخبرتني أمه أن من قتل أحمد كانوا 'فلسطينيين' بمعني أدق 'حمساويين' إنها أمه لن تلفق تهمًا ولن تُستخدم في تصفية حسابات, والنتائج التي توصلت إليها كانت من أهلها في بور سعيد وليس عبر جهاز الشرطة حتي لا يشكك أحد فيما قالته.'يا نجيب حقهم يا نموت زيهم' هو نفسه ما قلناه حينما قتل أبناؤنا الجنود الستة عشر علي حدود رفح وقت إفطار رمضان بيد من ليس لهم دين ولا ملّة ولا يعرفون شيئًا عن آدمية ولا رحمة, ورغم ما قلناه من إصرار علي انتقام وقصاص إلا أن الطرف الثالث الذي لم نكن نعلمه انفرطت آلة قتله وغدره ليغتال من شبابنا خمسة وعشرين آخرين في مذبحة رفح الثانية!!من هؤلاء, وبأي دين يؤمنون, من هؤلاء, وأي قلوب داخلهم يحملون؟ من هؤلاء الذين يستبيحون دمنا وأعراضنا ودولتنا, من هم وماذا يريدون أن يفعلوا بنا؟ وإلي أي طريق يأخذون بلادنا وأهلنا ومستقبلنا؟ من هؤلاء الذين يصرون علي ذبح مصر وشعبها, كنانة الله في أرضه, فالله خير حافظًا, هكذا أردد بينما تتجدد أمام عيني وذاكرتي مشاهد الدم العبثية.فوق المبني المتهدم من الداخل لا زال ينتصب علم مصر يرفرف في الهواء يعلن أن مصر لن تموت رغم كل ما جري ورغم كل ما يجري, مازال علم مصر فوق سطح مديرية أمن القاهرة يتحدي الزمان والمكان والقتل والحرق والدمار والانفجارات, رغم كل ما يجري علي الأرض مازال العلم المصري شامخاً في السماء, رأيته فتراجعت الدموع التي كادت تغتال صبري.. وأمام المبني كان تحدي المصريين من نوع آخر, فها هو 'محمود' ذلك الصبي بائع البطاطا جاء من مكانه المعتاد في ميدان العتبة ليبيع 'حلواه' هنا اليوم, أمام مديرية الأمن للمصريين الذين يتجمعون منذ ساعات بالمنطقة, جاء بعفويته الريفية ليتحدي رائحة الموت والدم والخراب, ليعلن عن استمرار الحياة.انتشر الباعة الجائلون حول المكان, إنها المرة الأولي التي يدخلون فيها إلي ذلك المحيط من تلك المساحة القريبة جدًا من مديرية أمن القاهرة, أعلام مصر, وصور السيسي وعبد الناصر والسادات, وصور أخري لقيادات جماعة الإخوان وضعت لهم استهزاءً وسط قطيع خراف وأغنام, إنه المصري الذي يتحدي قاتليه بكل الطرق حتي ولو بالسخرية, سيرحلون حتمًا قطيع الهمج القتلة الفجرة أمام صمود المصريين, وستبقي مصر بأهلها شامخة عزيزة إلي يوم الدين.بعض من الصور لمتحف الفن الإسلامي قمت بالتقاطها, وددت الدخول للتصوير من داخل المتحف, لكنها محاولة أخري فاشلة, ونفس العبارة يقولها أحد أفراد الدفاع المدني 'خايفين عليكي, المبني ممكن ينهار في أي لحظة'.ظللت أكرر للجميع 'أنا لا أخاف, مثلي مثل كل المصريين في كل أرجاء مصر, صرنا لا نخاف, سنتحدي الخوف ونتصدي لإرهابهم'.توقفت لبضعة لحظات أفكر في كيف ستتوجه رحلتي لمتابعة تحقيقي الصحفي, الخطوة التالية هي مستشفي أحمد ماهر, حيث جنود مصر وأهلها المصابون, كانت الأرض مازالت غارقة بالمياه بفعل الانفجار الذي يبدو أنه تسبب في كسر ماسورة المياه الرئيسية, والزحام شديد, كاميرات التليفزيون والصحفيين ووو.... آه, لقد انقطع حذائي, لن أستطيع استكمال رحلتي بحذاء ممزق, سأبحث أولاً عن محل لإصلاح الأحذية حتي أستكمل عملي, سألت, حتي وصلت لمحل 'عم حسين' جلست حتي يكمل هو مهمته, ودار بيننا حوار.. - قول لي يا عم حسين, انت جنب المديرية, شفت الانفجار اللي حصل النهاردة؟- أيوه يا بنتي, المنطقة كلها اتقلبت والناس اتفزعت, ابن أخويا أصله مجند من العساكر اللي هناك وكان في المديرية وقت الانفجار, وبعيد عنك شفنا يوم اسود, الواد أصله غلبان, أمه ماتت وكان عمره أربع سنين, اتربي يتيم يعني, مصدقنا إنه قرب يخلص خدمته ويطلع يشوف مستقبله, شغلانة ويخطب وربنا يصلح حاله, رجع حالته تصعب ع الكافر, ساكن في البيت اللي قدامك هنا, لو عاوزة تقابليه.وعلي بعد بضعة أمتار كان منزل 'محمد' أحد ضحايا التفجير الإرهابي.. شارع سكة الحبانية, منزل بسيط, وسرير يرقد عليه 'محمد محمود توفيق- عمره 20 سنة' امتلأ وجهه بالنتوءات والجروح بينما ربطت رأسه وكلتا يداه برباط طبي.. قال محمد: كنت نايم في الدور الثالث في المديرية أنا وزمايلي بعد الوردية بتاعتنا ما خلصت, صحيت علي صوت انفجار والإزاز بتاع الشباك اللي كان جنبي نزل عليّ ودخل في جسمي, اتفزعت أنا والعساكر وجرينا علي بره مش فاهمين إيه اللي بيحصل والسقف بيقع علينا من كل ناحية, والحيطان والأرض كل السيراميك والرخام اللي فيها بيطير ويخبط ويقطع في جسمنا, إيديا كانت متقطعة وبتجيب دم وأنا باجري لقيت عساكر من بتوع الأمن المركزي واقعين في الأرض غرقانين في دمهم, والحيطان والحديد بتاع البوابة واقع عليهم وعمالين يصرخوا ويستنجدوا بينا ويقولوا 'الحقونا' وقفت قدام واحد فيهم ومقدرتش أعمله حاجة بسبب الجروح اللي في إيدي, قلبي كان بتقطع وأنا باسيبه وأجري, الدنيا كانت تراب وخراب ودخان, مش شايفين حاجة قدامنا وأصوات كتير للعساكر بتصرخ ومش قادر أعمل حاجة لحد, خرجت من باب المديرية وأنا حاسس إن فيه ناس هتصوب بنادقها ونارها علي كل اللي يخرج من المديرية, حسيت إني ميت حتي لو خرجت من المبني, وان اللي عمل التفجير ده أكيد مستني يكمل علينا قدام البوابة ويخلص علي اللي يخرج حي من المبني, جريت مش عارف أروح في أي اتجاه, لقيت تاكسي متكسر وسور المديرية بتاع السطح واقع في الأرض والبوابة والسور الحديد واقعين علي العساكر, كانوا صعبانين عليّ بس مش قادر أعمل لهم حاجة, الأهالي بدأت تيجي ناحية المديرية كنت باستخبي أول ما ألاقي حد بيجري ناحيتي, لإني مش عارف اللي جاي ناحيتي ده عاوز يساعدني ولا يقتلني, بقيت استخبي ورا البيوت وورا الشجر وجسمي بينزف, لحد ما وصلت لمستشفي أحمد ماهر ودخلت الاستقبال ولقيت الأهالي شايلين زمايلي العساكر وداخلين بيهم المستشفي غرقانين في دمهم, بعد ما عملولي إسعافات كانوا عاوزين ياخدوني مستشفي الشرطة أكمل علاجي, رفضت, إذا كانت المديرية حصل فيها كده يبقي المستشفي ممكن يحصل فيها إيه, ما هي برضه ممكن يفجروها, المديرية كان عليها حراسة ومتأمنة يبقي المستشفي اللي من غير حراسة أمان إزاي؟!- سمعت عن استهداف عساكر الجيش والشرطة قبل كده يا محمد, توقعت انك ممكن في يوم تكون مكانهم؟- الصراحة, لأ, أصل الكلام ده كان ممكن يحصل في قسم شرطة أو مركز لكن أنا كنت جوا مديرية أمن القاهرة, يعني مفيش بعد كده أمان ولا تأمين.' صحيح يا محمد, عندك حق, دي مديرية أمن القاهرة, يعني مفيش بعد كده أمان ولا تأمين, يبقي القصور فين؟' تركت محمد وانصرفت وكان بعدها سيذهب إلي طبيب في عيادته الخاصة ليستكمل إجراءات علاجه, وإلي مستشفي أحمد ماهر, توجهت.. 'الحالات كلها خرجت, راحت مستشفي الشرطة, مفيش غير حالة واحدة وأهله رافضين يقابلوا صحفيين, والشهدا الثلاثة نقلناهم مشرحة زينهم' قالها ضابط تأمين المستشفي ملازم أول 'سيد عبد الباري'.. في طريق عودتي كان نساء وأطفال وشباب وشيوخ يملئون شوارع حسن الأكبر وميدان عابدين وميدان مصطفي كامل يحملون علم مصر, ويهتفون 'يا نجيب حقهم, يا نموت زيهم'.تذكرت كل التفاصيل التي مررت بها منذ أيام داخل مستشفي الشرطة بعد حادث تفجير مديرية أمن الدقهلية, كل ما حدث يتكرر بنفس الطريقة المأساوية, ستكون نفس الحكايات بنفس التفاصيل ونفس الصور الموجعة, أين القصور؟! عند من؟! دم الضحايا في رقبة من؟! دمنا.. دم الوطن في رقبة من؟!في اليوم التالي كان موعد كتابة الموضوع وتسليمه للجريدة, تتابع صور الضحايا أمام عيني, المبني المهدم ذو الهيبة في الذاكرة, رجال الشرطة والجيش – حماة الوطن وحراسه وهيبته وميزان قوته- الذين يتساقطون ما بين شهيد وجريح في كل شبر علي أرض الوطن, جراح محمد, العسكري الغلبان, اللي اتربي يتيم زي ما قال عم حسين, 'توماس قصري فكري' شهيد مجند من قوات الأمن المركزي اللي راح ضحية إرهاب الفجرة, اختلط دمه بدم 'محمد رشدي عبد الباقي' و'خالد سمير عطية' كلهم جنود استشهدوا في ذات الحادث فداءً لك يا وطن, ليظل ترابطنا مسلمين ومسيحيين حتي في الموت والنهايات المفجعة, سنظل وحدة حتي النصر, وحتي يوم الدين.لاحقتني صور سيارات الإسعاف والمطافئ التي اكتظ بها المكان, دموع الأهالي علي بوابات مستشفي أحمد ماهر, صوت الشيخ سيد وهو يصرخ' دول تجار دين, هحكي عنهم للناس في الشوارع حتي لو قالوا عليّ مجنون' في اليوم التالي انفجار قنبلة أعلي محطة مترو البحوث في الدقي, تتجدد صور شهداء الدقهلية وكلمات أطفالهم الذين تحدثت إليهم, صور المصابين وذويهم, أهل مصر الغلابة, صور نعوش شهداء رفح الأولي والثانية, صور لضباط الجيش والشرطة الذين يتم اغتيالهم كل يوم علي أيدي إرهابيين مأجورين, خونة ومرتزقة وعملاء وفجرة, تتداعي قدرتي علي الكتابة, يلاحقني علم مصر الذي يرفرف فوق سطح البناية المحترقة, دموع الأمهات الثكالي وصوت نحيبهن, أنّات المصابين, الأمن يلقي القبض علي عناصر تكفيرية بحوزتهم خرائط لأقسام الشرطة, وعناصر أخري بحوزتهم خرائط لمترو الأنفاق, تخور قواي, أفقد قدرتي علي التركيز, مصر تخفق في قلب يكاد يتوقف عن النبض, وتتوغل في روح تكاد تفقد الحياة.. أغيب عن الوعي, وبعد رحلة قصيرة بالمستشفي أعود لأشهد في طريق عودتي إلي بيتي المزيد من الأحداث, اشتباكات في شوارع وسط القاهرة, أرصفة متحطمة وقتيل جديد عند نقابة الصحفيين, شوارع أغلقت أمام المارة نتيجة لتظاهرات الإخوان, أصوات أعيرة نارية لا أعرف من أين تجيء, أعمدة دخان في شارع جانبي تردد وقتها أنه انفجار محدود, تتوالي الأحداث التي تمتص دم المصريين وتعربد في أوصال الوطن, ليشهد هذا الأسبوع الكثير جدًا من الأحداث والمحاكمات في القضايا الهامة التي جرت علي أرض مصر, استشهاد رقيب شرطة وإصابة آخر برصاص مسلحين عند كنيسة السيدة العذراء بمدينة أكتوبر, اغتيال اللواء محمد سعيد مدير المكتب الفني لوزير الداخلية برصاص مسلحين أسفل منزله, إسقاط مروحية بصاروخ مضاد للطائرات بشمال سيناء ليستشهد خمسة من خيرة ضباط مصر, اغتيال ضابط شرطة في شمال سيناء والعثور علي جثة آخر بين الزراعات بمحافظة المنيا, تفجير آخر بمعسكر الأمن المركزي بالسويس, انفجار عبوتين ناسفتين بمحور 26 يوليو عند عبور سيارة أمن مركزي وإصابة أمين شرطة, العثور علي العديد من القنابل بعدد من محطات مترو الأنفاق ومحاولة تفجير القطار رقم 963 المتجه من طنطا إلي القاهرة, سقوط 3 صواريخ جراد علي معسكر الزهور بالشيخ زويد, تفجير خط الغاز الرئيسي وتوقف التصدير بين القاهرة والأردن, الذكري الثانية لضحايا مجزرة بور سعيد, ولم نضع أيدينا علي القاتل الحقيقي بعد, ولم يصدر حكم نهائي في القضية حتي الآن يشفي صدور الأهالي المجروحين, خطف خمسة دبلوماسيين مصريين في ليبيا لمقايضتهم بأبي عبيدة الليبي الذي ألقت السلطات المصرية القبض عليه, ثم الإفراج عن أبي عبيدة وإطلاق سراح الدبلوماسيين المختطفين, اشتباكات بين الأهالي وأنصار الإخوان في شوارع القاهرة وعين شمس والمطرية ومصر الجديدة والجيزة, انفجار قنبلة صوت بالعمرانية أمام السفارة البلجيكية, ومجهولون يشعلون النار في غرف الكهرباء بشوارع مدينة نصر, وآخر يشعل برج كهرباء بمحطة حلوان, وإطلاق نيران من متظاهري الإخوان بمحطة مترو المطرية.. الجلسة الثالثة لمحاكمة قتلة الأطفال بإلقائهم من فوق الأسطح بمنطقة سيدي جابر أثناء مظاهرات الإخوان, محاكمة مرسي في قضايا التخابر ثم قضية تعذيب وقتل المتظاهرين عند الاتحادية والتي استشهد فيها عشرة من المتظاهرين المناهضين لحكم الإخوان منهم الزميل الحسيني أبو ضيف, هم أنفسهم الشهداء الذين تاجروا الإخوان بدمهم بعد ذلك.. وكما هي عادته, 'أتحفنا الريس مرسي' بفقرة كوميدية خففت عنا ضغط ما نعيش, حين سأل القاضي في الجلسة 'إنت مين يا عم, إنت عارف أنا فين'.. ثم جلسة محاكمة أخري في قضية الطفلة زينة عرفة ريحان, ثم تقارير روسية تكشف عن مؤامرة أمريكية لتقسيم الجيش المصري وإشعال حرب أهلية في مصر, ثم نظرة علي مشهد عام علي الوطن الأكبر: سوريا, العراق, تونس, فلسطين, السودان, اليمن.. ثم أفغانستان والصومال, كلها مصائر تلاعبت بها أمريكا وعملاؤها وإخوانها, فهل سنستطيع حماية مصر, الوطن الأعظم والأجمل والأبقي؟!في خضم الأحداث المؤسفة تجيء ذكري رحيل رأفت الهجان, وكأنه يذكرنا بأمجاد مصر, بوطنية رجالها وتضحياتهم وكفاءاتهم, جاءت تحيي الحنين إلي الشرفاء وتشعل وسط الظلام شمعة حتي لا نفقد الأمل, تذكرنا بأننا من الموت نستطيع أن نصنع حياة.




اسبوع من الأحداث
شهادات حيه من واقع أحزان الدقهلية
' زينة ' ضحية الوجه القبيح للوطن
السويس هي ملحمة للنضال الوطني عبر التاريخ, وعلاقة أهلها بالقوات المسلحة والشرطة ممتدة وصامدة ضد الإرهاب بكل أشكاله• هناك إلزام للمشروعات الجديدة بتشغيل 80% من أبناء المحافظة من إجمالي العمالة ومشكلة البطالة في طريقها للحل• • إعادة تشغيل ميناء بورتوفيق الذي توقف بعد حادث العبارة السلام سيعيد الحياة للميناء من جديد• استعنا بالمنتخب المصري للرماية في مواجهة أسراب الغربان بالمحافظة لكن الأمر تغير بعد الثورة• السويس ليس بها إرهاب, ولا مخاوف من سيناء, والقناة يؤمنها الجيش بشكل كاملثلاثة أيام كاملة عشتها في قلب عاصمة النضال وعلي أرض مدينة الأبطال, ثلاثة أيام هي عمر زيارتي إلي محافظة السويس, أسطورة أساطير الكفاح وسجل الذكريات لحكايات 'الغريب' ودفتر شهداء الاستنزاف والمقاومة الشعبية وسيف التحرير والصمود ودرع الوطن وحامية حدوده بجيشها وأهلها منذ الأمد وإلي الأبد.. ثلاثة أيام في عاصمة النضال عاصرت خلالها حكايات أبطال المقاومة في المدينة الباسلة, التقيت بهم بطول الطريق وعرضه, من مبني المحافظة، حيث أجريت حواراً مع المحافظ, ثم إلي قهوة 'نعناعة' وجلسة ذكريات مع عدد من شيوخ المقاومة الذين حكوا عن تاريخ الصبا والشباب, تلك المرحلة من أعمارهم التي عاشوها يناضلون بصمود وكرامة في معارك ضارية خاضوها ضد العدو الصهيوني وأعوانه.. انقسمت زيارتي لعدة أجزاء, حوار مع اللواء العربي يوسف السروي, محافظ السويس, أعد له الزميل مصطفي فتحي –مراسل الجريدة بالمحافظة- ولقاءات عديدة مع أبطال المقاومة الشعبية وحرب الاستنزاف وأبطال أكتوبر, ثم لقاء مع الصيادين الذين عشت معهم بعضًا من تفاصيل وهموم ومعاناة وفرحة حياة البحر.. و.. التقيت كاريكا, ذلك الشاب الثوري الذي استطاع أن يبني الكافيتريا الخاصة به من 'طرح البحر'، حيث كان يجمع الأخشاب التي تجود بها الأمواج إليه عبر الشاطيء, و لـ 'كافيتريا كاريكا' حكاية طويلة مع الصبر والثورة والثقافة والحياة.. 'كاريكا' حكاية من حكايات نضال العصر.. عن كل هذه التفاصيل ومن حياة كل هؤلاء سطرت لقاءاتي معهم علي حلقات متوالية أبدؤها بلقائي مع اللواء السروي, محافظ مدينة النضال ومصنع الأبطال.. بمجرد أن تطأ قدماك أرض المحافظة قبل يوم الرابع والعشرين من أكتوبر بأيام تشعر أن هناك شيئًا ما يجري بالمدينة, استعدادات لحفل كبير تشتم رائحته في أجواء فرحة تعلن عن نفسها, عربات تم تزيينها بالورود وزودت بمكبرات الصوت لتنشد أغاني 'السوايسة' عن المقاومة, تتجول في الشوارع تذكر الناس بنضالهم وانتصاراتهم في ذلك اليوم, وتحفر في ذاكرة الأجيال الجديدة ملحمة الكرامة وطريق التحرر الذي خاضه آباؤهم وأجدادهم.. في ظل هذه الأجواء والاحتفالات التي تشبه 'الكرنفال' دار هذا اللقاء مع اللواء السروي.. بدأ اللواء العربي يوسف السروي, محافظ السويس, حواره بتهنئة يوجهها لأهالي المدينة البواسل بمناسبة العيد القومي للمحافظة, وتحدث السروي عن تزامن العيد الأربعين لنصر أكتوبر مع العيد القومي الأربعيني للمحافظة أيضاً.. كما تحدث السروي عن معركة المائة يوم التي واكبت مرحلة حصار مدينة السويس, والتي تصاعدت فيها الأحداث حتي بلغت ذروتها في الرابع والعشرين من أكتوبر 1969.تولي إدارة محافظة بحجم وتاريخ ونضال السويس يضعك أمام مهمة أو مسئولية مضاعفة, فكيف تتعامل مع شعب بطبيعته متمرد يمارس حريته علي طريقته الخاصة ولا تقف أمامه سلطة كما جري مع الرئيس السابق مرسي حين تحدت مدن القناة ومنها السويس قرار حظر التجوال فنزل الأهالي إلي الشوارع يغنون السمسمية وينظمون دورات رياضية في مواعيد الحظر؟عاشت السويس ملحمة من ملاحم الفداء وقدم أهالي المدينة الباسلة نماذج للبطولة تشهد بها عمليات المقاومة الشعبية التي كانت تجري إلي جوار ما تقدمه قواتنا المسلحة الباسلة ورجـال الشرطة الأبطال.. لنصبح أمام مشهد تاريخي يشهد له العالم أجمع.تلك البطولات المشتركة لازالت تحكم العلاقة بين أهالي السويس وبين جيشه وأفراد شرطته, وإذا كان من هو في موقع المسئولية يستمع لكل شكاوي المواطنين المسئول عنهم ويسعي جاهدًا لحلها فلا صعوبة في التعامل معهم حيث يصبح التوافق والتفاهم هما لغة الحوار والتعامل, وهو ما يجري مع مواطني المحافظة حيث نحظي باحترام وتفاهم متبادل.بطولات أهالي السويس لم تلق حتي الآن الاهتمام الكافي بالإضافة إلي أننا كثيرًا ما نسمع عن شكاوي من أبطال المقاومة أو أبطال أكتوبر لأنهم لا يلقون التكريم اللائق ببطولاتهم؟البطولة في أحداث السويس بطولة جماعية فكل من تواجد في المدينة وقت الحصار بطل حقيقي، ونصر أكتوبر غير مرتبط فقط بالعمليات التي بدأت في السادس من أكتوبر وإنما قبل ذلك بكثير عندما رفض شباب السويس النكسة يوم 5 يونيه 1967وتجمع بدافع من وطنيته الخالصة وتاريخه البطولي في نادي السويس الرياضي ومدرسة السويس الثانوية العسكرية وشكل مجموعات الدفاع الشعبي والمدني وحمل السلاح دفاعًا عن الأرض والكرامة وبدأ الطريق بتأسيس منظمة سيناء العربية الفدائية استعدادًا ليوم الخلاص والعبور العظيم.ولا يفوتني أن أوجه التحية للزعيـم الخالد جمال عبد الناصر الذي أعلنها مدوية عندما قال: 'ما من بلد ارتبط اسمه بالتاريخ المصري والنضال المصري كما ارتبط اسم السويس المدينة التي قدمت للعالم أروع صور الصمود والتحدي علي مر العصور'.. وإلي الرئيس السادات الذي أكد أيضا علي أهمية دور محافظة السويس قائلا: 'معركة السويس لم تكن تخص شعبها وحده بل كانت تمثل هزيمة أو انتصار الدولة المصرية بأكملها.. إن مدينة السويس كانت تعرف إنها تحمل أمانة الدفاع عن كل قرية ومدينة مصرية وعربية'. وأنا اتفق معك في أن نضال السويس وحرب المائة اليوم لم تلق حتي الآن التحليل والإنصاف الكافيين ليس فقط بوصفها تجربه فريدة تعرضت لها مدينة مصرية ظلت تحت الحصار طوال هذه المدة دون أن تسقط أو تستسلم بل لأن معركة 24 أكتوبر التي عجز فيها العدو الاسرائيلي عن اقتحام السويس كانت مسار تحول في مسار الحرب كلها.لكن في المقابل لم نقصر يوما في حق أبطال السويس ومازلنا نتذكرهم ونجلهم ونقدرهم، الأحياء منهم أو من لقوا ربهم إبراهيم سليمان وفايز حافظ أمين وأشرف عبد الدايم وأحمد أبوهاشم.. وغيرهم، محمود عواد ومحمود طه وعبد المنعم قناوي وفتحي عوض الله والشيخ حافظ سلامه الذي اعتلي منبر مسجد الشهداء ورفض إنذار القائد الإسرائيلي بتسليم المدينة.لا يمكن أن تنسي مصر أبدا أبطالها لقد شاركت أهالي السويس منذ أيام في حفل تكريم الفدائي عبد المنعم قناوي في اليوم العالمي للمسنين بالسويس الذي نظمته مديرية الشئون الاجتماعية بالتعاون مع جمعية الأسرة والطفولة بدار المسنين بالملاحة.. ومؤخرًا زرت شيخ المجاهدين حافظ سلامة رمز المقاومة الشعبية بالسويس وهنأته بمناسبة عودته من الأراضي الحجازية بعد أداء فريضة الحج.. ودار بيننا حوار الذكريات حول دور المقاومة الشعبية في السويس أثناء حصار السويس.قلت إن محافظة السويس كلها تستحق التكريم لما قدمته لمصر من بطولات فماذا عن سبل النهوض بالسويس؟لدينا أمنيات كثيرة للنهوض بالمحافظة وأمامنا خطط كبيرة للتطوير، منها العمل علي إعادة تشغيل ميناء بور توفيق مرة أخري لتصبح السويس أولي عتبات الحج كما كانت من قبل, وهو ما يترتب عليه تشغيل قرية الحجاج وأرصفة الميناء علي أعلي مستوي وسيتم ذلك بإذن الله قبل موسم الحج القادم, وكذلك أسعي لتطوير حي الجناين 'القطاع الريفي بالمحافظة' الذي أتمني أن نقوم بتقنين أوضاعه, كمنح تراخيص المباني للمستحقين وتطوير المستشفيات به وتطوير الصرف الصحي وغيرها من الخدمات الهامة, كما أحلم بإنشاء كلية طب بالمحافظة ملحق بها مستشفي تعليمي, علمًا بأن المبني موجود منذ عشر سنوات إلا أنه مهمل ولم يكتمل, أسعي لتحويل محافظة السويس إلي منطقة جاذبة للاستثمار, وهو هدف قومي لابد من أن يتكاتف الجميع لتحقيقه, ولدينا بالمحافظة كل الشروط الجاذبة للاستثمار, فحين نسعي لإنشاء شركات أسمنت لدينا المواد الخام من الجرانيت والحجر الجيري والكبريت والطفلة, ولو تحدثنا عن إنشاء مصانع تكرير بترول فلدينا البنية الأساسية والمواد الخام المتواجدة بكثافة بخليج السويس, أما عن صناعات الغزل والنسيج والبتروكيماويات, فكل هذه الصناعات جاذبة للاستثمار، وهي الأمل الوحيد لتشغيل -ليس فقط أبناء السويس- ولكن أبناء المحافظات المجاورة أيضًا, مع إعطاء الأولوية لأبناء المحافظة.ومن ضمن المشروعات التي أسعي لإنجازها تحويل منطقة عيون موسي إلي منتجع استشفائي, به رياضات مائية, رحلات اليوم الواحد, مزار ديني حيث توجد بها الإثني عشر عينًا المذكورة في القرآن.. إضافة إلي كونها مزارًا للقوات المسلحة لنقطة عيون موسي, وهو ما يترتب عليه من خدمات تشغيل معدية بور توفيق- عيون موسي, تساهم في دعم الاقتصاد بالمحافظة.جدير بالذكر نعمل علي إزالة المخلفات المتراكمة بالسويس.. وقد قمنا بحملة موسعة بشارع الجيش لإزالة الأكشاك والمخلفات واللوحات والتعديات واللافتات الموجودة بالشارع مما يساهم في تسهيل الحركة المرورية وجاري الإعداد لتنفيذ حملات أخري للقضاء علي المخالفات بالسويس.. وكلها أشياء من شأنها تنمية المحافظة حضاريا.لاحظت منذ وصولي للمحافظة وجود أعداد كبيرة من 'الغربان' التي تحلق في سماء المدينة وتنتشر بأرضها, وسمعت شكاوي عدد من المواطنين عن التهديدات التي يتعرضون لها بسبب انتشار هذا النوع من الطيور بكثافة, وأن هذه الظاهرة هي الأغرب من نوعها، بعد انتشار أعداد كبيرة من 'الغربان' والتي بدأت في مهاجمة الأطفال والناس المارة بالشوارع، وتخطف منهم بعض الأشياء التي يحملونها, إضافة إلي أن تكاثر هذه الغربان سيؤدي إلي فقدان التوازن البيئي وخصوصا أن هذه الغربان أصبحت سببا في انقراض بعض الطيور إذ إنها تتغذي علي الطيور الصغيرة كالبلابل والحمام وتهوي مهاجمة الطيور الصغيرة, والأهم من ذلك أنها قد تكون سببًا في انتشار الأمراض والفيروسات الخطيرة, فمن أين تأتي 'الغربان' وكيف تتعاملون مع هذه المشكلة؟'الغربان' تأتي ضمن مجموعة 'الطيور المهاجرة' الآتية من شرق آسيا ومن إفريقيا, وكنا قبل الثورة نتعامل معها موسميًا بـ'الخرطوش', حيث قمنا بالاستعانة من قبل بالمنتخب المصري للرماية للتعامل مع أسرابها مستخدمًا بنادق الصيد, واستطاع قتل نحو مائة ألف طائر قمنا بدفنها بالمدافن الصحية لمنع انتشار الأمراض والأوبئة, إلا أن الأوضاع الأمنية اختلفت بعد ثورة يناير فصار التعامل معها عبر 'طعوم مسمومة' توضع لها فوق الأشجار, ليقوم الحي بعد ذلك بجمع مخلفات الغرباء الميتة ودفنها في مدافن صحية.علمت أنكم وضعتم شرط للراغبين في إقامة أي مشروع جديد بالمحافظة, وهو أن يتم تعيين 80% من القوي العاملة بالمصنع من أبناء السويس, فما مدي صحة هذه المعلومة, وهل هناك إحصائية محددة بأعداد العاطلين بالمحافظة؟بالفعل, سيتم إلزام الشركات الجديدة بعقد رسمي يلزم صاحب العمل بتشغيل 80% علي الأقل من العمالة من أبناء محافظة السويس, والإحصائية المتاحة عن أعداد العاطلين بالمحافظة تفيد بوجود 17 ألف عاطل تقريبًا.منذ وقوع حادث العبارة السلام 98 المملوكة لممدوح إسماعيل وغرق الركاب, قام ممدوح إسماعيل ببيع أسطول المراكب الذي كان يمتلكه في الهند مما ترتب عليه ازدياد في أعداد العاطلين وتوقف العديد من المشروعات الملاحية عن العمل خاصةً بعد صدور قرارات جديدة تحد من تحركات السفن بميناء بور توفيق بعد احتساب مسافة الرحلة الدولية 600 ميل بدلاً من 635 ميل وهو ما تسبب في أزمة كبيرة لدي الشركات الملاحية والعاملين بالبحر من ناحية ومن ناحية أخري أضاف عبئًا ماديًا وجسديًا علي كاهل المواطنين الذين يضطرون لتكبد نفقات أكثر للسفر إلي السعودية عن طريق سفاجا, وهو ما اضطر الكثيرين من أصحاب السفن إما لهجرة الميناء أو لبيع السفن بعد تدهور الحالة الملاحية بالميدان نتيجة تلك الإجراءات التي –كما يقول المتضررون- اتخذت بلا دراسة حقيقية لمتطلبات السلامة البحرية بل لتهدئة الرأي العام بعد حادث العبارة, وهي إجراءات ليس من ورائها طائل إلا خراب البيوت, فكيف تتعاملون مع هذه المشكلة؟منذ أيام بدأنا بالفعل بالتنسيق مع وزارة النقل السعودية والجهات المعنية للعمل علي حل هذه المشكلة ووزير النقل السعودي متفهم لطبيعة المشكلة ومتحمس لحلها, وقد أرسل لجنة لميناء بور توفيق لمعاينة الوضع علي الطبيعة بقيادة اللواء إبراهيم يوسف الذي يسعي بجدية للإسراع في إيجاد حل لإعادة الحياة للميناء مرةً أخري, والحلم في طريقه للحل.لقد قلت في أكثر من مناسبة أنني لن أقوم بمهام عملي من مكتبي فقط بل أنزل إلي الناس في الشارع للوقوف علي مشكلاتهم وبحث سبل حلها، فقد كنت ــ مثلا ــ في لقاء جماهيري بمنطقة الكيلو 46 بالجناين، حضره المهندس حسن كامل مدير عام الإسكان، والدكتور محمد العزيزي مدير عام الصحة، واللواء عبد الرحمن الأخوص رئيس حي الجناين وعدد من التنفيذيين والقيادات الشعبية وممثلي الأحزاب بالسويس.. وقررت علي الفور تشكيل لجنة عاجلة لحل مشاكل أهالي القطاع الريفي وتشكيل لجنة من إدارة التخطيط العمراني وأملاك الدولة والأملاك الزراعية ومديرية الإسكان، لبحث وإنهاء مشكلة استخراج رخص المباني لواضعي اليد حسب.ويجري دراسة إيجاد حلول مشكلة الصرف الزراعي وتمليك الأراضي داخل الكردون وخارجه ووضع حلول لمشكلة رغيف العيش في المنطقة وارتفاع سعر الردة التي تستخدم في علف المواشي وتركيب عدادات الكهرباء للمنازل وحل مشكلة الصرف الصحي بالمنطقة.وأنا هنا ضربت مثال بمشكلات أهالي القطاع الريفي، لكن العمل يجري لمواجهة المشكلات في كافة أنحاء المحافظة.. فأمامنا خطط عديدة لحل المشكلات والنهوض بالسويس، لقد بدأنا وسيشعر المواطن بالتحسن تدريجيا مع تنفيذ هذه الخطط.علي الجانب الآخر من القناة تمتد سيناء بكل ما فيها من مشكلات أمنية وصراع محموم مع مجموعات إرهابية مسلحة, وهناك تخوفات من امتداد الإرهاب من سيناء إلي محافظة السويس, فكيف تواجهون تلك الأزمة؟محافظة السويس من أقل محافظات الجمهورية تعرضًا للعمليات الإرهابية, أولاً: نتيجة الوعي غير العادي, لأبناء هذه المحافظة بكل انتماءاتها, ثانيًا: هناك جهود مخلصة من مدير أمن محترف ورجاله الشرفاء, ثالثًا: العلاقة الخاصة جدًا بين أبناء المحافظة وقوات الجيش الثالث الميداني تجعل هناك تصديًا مشتركًا وجهدًا موحدًا للتصدي لأية عمليات تخريب, والسويس من المناطق الآمنة إلي حد كبير وأستطيع أن أقول 'ما فيش عندنا إرهاب'.. أعرف أن التخوفات مصدرها الرئيسي قناة السويس، لكن أطمئن الجميع فقوات الجيش هي المسئولة عن تأمين المجري الملاحي للقناة ومدخلة الجنوبي بالمدينة، ونحن بصدد إنشاء أسوار إلكترونية لتأمين المجري الملاحي.. والأسوار ستشمل الضفتين الشرقية والغربية للقناة بمنطقة السويس، وسيكون ذلك في القريب العاجل.كما ستشمل إجراءات التأمين ستشمل عدد كبير من كاميرات المراقبة علي طول الأسلاك وذلك ضمن شبكة إلكترونية، وهذه الإجراءات كاملة تنفذها القوات المسلحة من أجل حماية المجري الملاحي.ماذا عن مشروع تنمية محور قناة السويس, وهل هو المشروع نفسه الذي تم تقديمه للدكتور كمال الجنزوري حينما كان رئيسًا للوزراء عام 2006 وتم رفضه, ثم تم تقديمه مرة أخري في عهد مرسي واعترضت عليه القوات المسلحة, وإذا كان هو نفس المشروع فلماذا تم رفضه بالأمس وتم قبوله الآن؟ وإلي أي مدي وصل المشروع الآن؟أولاً.. مشروع تنمية هيئة قناة السويس يجب أن يكون هدفًا قوميًا يلتف حوله الشعب المصري كله وليس مدن القناة فقط, هذا المشروع بدأ بالفعل وبنيته الأساسية موجودة منذ سبع سنوات, بل أن نحو ثمانية مشروعات ضمن هذا المشروع قائمة بالفعل وتعمل علي الأرض, مثل شرق التفريعة ووادي التكنولوجيا, وكوبري الفردان, ومشروع غرب خليج السويس, ومشروعات السخنة, إلا أنه في الآونة الأخيرة تم وضع المشروع تحت مظلة هيئة قناة السويس باعتبارها هيئة وطنية مستقلة لديها مقومات البحث والدراسة, وأشير إلي أن القوات المسلحة لم تعترض يومًا علي العمال المقامة أو المستحدثة إلا فيما يتعلق بإمكانية تنفيذ خطة العمليات مع الجانب الآخر.وما الفرق بين المشروع الذي في طريقه للتنفيذ الآن وبين مشروع الإخوان, علي ماذا دارت الخلافات, وما هو دور قطر في تلك الأزمة؟ الخلافات كانت تدور في إطار جنسيات من لهم حق الانتفاع ونسب مساهمتهم في المشروع دون أخذ رأي القوات المسلحة في هذا الموضوع الذي يمس الأمن القومي المصري, أما عن قطر, فلا أعرف لأي مدي تدخلت في الأمر, لكني اعتقد أن الخلافات كانت تتعلق بنسبة حق الانتفاع.يتيح المشروع لأصحاب الجنسيات المختلفة الحق في الانتفاع لسنوات بقناة السويس, فما لو كان ضمن تلك الجنسيات المنتفعة 'صهاينة' وفي ظل اتفاقية كامب ديفيد والجات فليس هناك ما يمنع من ذلك, وهل توجد شروط وإجراءات تحد من تواجد العدو الصهيوني في قلب قناة السويس؟'علي جثتي' أن ينتفع بشبر واحد علي أرضي صهيوني, فالأمن القومي المصري لا يتجزأ وهناك تعارض مصالح بيني وبين الجانب الآخر, وعلي من يتخذ القرار أخذ ذلك في الاعتبار حيث لا يتحول هذا المشروع الخطير والهام إلي مركز للجاسوسية., ولو أنا مسئول وصانع قرار لاتخذت ما يفيد بضرورة دراسة نسب مساهمة الشركات الأجنبية بعناية, ويفضل أن يكون المستثمرين أغلبهم من رجال الأعمال المصريين الشرفاء, وما أكثرهم, يليهم الأخوة العرب.تتعالي بعض الأصوات المناهضة لأن يحكم مصر رئيس ذو خلفية عسكرية رغم النجاح الذي يحققه رجال القوات المسلحة في مواقعهم القيادية, فبماذا تفسر ذلك وما هو تأثير تلك المعارضة علي أداء العسكريين في مواقعهم المختلفة؟أنا 'اللواء العربي' عندما أكون مرتديًا الزي العسكري, ولكن حينما أخلع بدلتي العسكرية أصبح مواطنًا مدنيًا عاديًا ولا أنتمي للمؤسسة العسكرية, وإذا حدث وحكم مصر رئيسًا ذو خلفية عسكرية فلن نكون أول دولة يحكمها رجل خلفيته عسكرية, مع الأخذ في الاعتبار أن الحاكم لابد وأن يكون مدنيًا, والخلفية العسكرية لا تشين صاحبها وإنما هي شرف له, أما عما يؤثر في معنويات الرجل العسكري سواء كان ضابط أو صف ضابط أو جندي فهي العبارات المسيئة لشرف المهنة والتي تم إعدادها من قبل جهات معادية للقوات المسلحة.العدد القادم حلقة جديدة من محافظة السويس ولقاءات مثيرة مع رموز المقاومة الشعبية وحرب الاستنزاف وحرب أكتوبر, وتفاصيل معركة المائة يوم وحصار السويس..
السويس ملحمة النضال الوطنى
عبد المنعم قناوي عشت 101 يوم في الجبل وحدي دون طعام ولا ماء أنقذت مقر الجيش الثالث الميداني من غارة إسرائيلية كانت تريد تدميره بالكاملمحمود طه: - العدو خسر 25 مجندا والكثير من المعدات العسكرية لرفعه علم الكيان الصهيوني علي الضفة- شفرة العملية وضح النهار 'جاموستين وجمل و10 بأف'السيد منصف: - مجموعتنا أنقذت 350 مجندا مصريا أيام النكسة, بعدها انضممت للمقاومةمحمد أنور: - مقدرش أقول اسم ضباط المخابرات اللي علمونا دي 'أسرار'علي قهوة 'نعناعة' بحي الغريب جلسنا, والماضي البعيد صار حاضراً فوق الشفاه وفي العيون الصامدة وفوق تجاعيد الزمان التي حفرت فوق وجوه المناضلين من شيوخ المقاومة الشعبية للمدينة الباسلة.. السويس.. نزحت الذكريات إلي الماضي البعيد, وعادت محملة بعبق التاريخ ورائحة النصر, استردت الذاكرة عافيتها وقوتها لتأتي بالأمس وتحوله في العيون إلي نظرات فرحة وأحيانًا إلي دمعات, وفي المخيلة صار الماضي البعيد حاضرًا حيًا بعد أربعين عامًا من حلاوة الانتصار.. في زيارتي إلي أرض السويس المناضلة, التقيتهم, فكان لي شرف الجلوس في حضرتهم, إنهم وقود النصر وأعلامه التي لازالت ترفرف حية قوية فوق أرض مصر.. هم من قال عنهم السفاح 'شارون' حينما سأله أحد الصحفيين في مؤتمر عن حرب أكتوبر قائلاً: 'متي تحاربون مصر؟' فأجاب: 'حينما ينتهي جيل أكتوبر'هؤلاء هم جيل أكتوبر الذي لن يموت, هؤلاء هم أبطال حرب الاستنزاف والمقاومة الشعبية التي أشعلت لهيب النصر في القلوب التي صمدت أمام نكسة 67 وأبت أن تنكس مصر أعلامها, فحملوا أرواحهم علي كفوفهم وخاضوا حروب الشوارع ضد العدو المحتل وتصدوا لأعتي القوي العسكرية في العالم, فولد النصر علي أيديهم وعادت الكرامة المصرية للمصريين في أروع أساطير الحروب عبر التاريخ الحديث.. أكتوبر العظيم.. تلك هي الحلقة الثانية التي أكتبها عن زيارتي لمحافظة السويس, أكتب عن 'المقاومة الشعبية' حيث تزامنت الزيارة مع احتفال المحافظة بالعيد القومي للمدينة الصامدة, بعض المناضلين التقيتهم في قاعة الاستقبال بالفندق, حيث مقر إقامتي, وآخرون كانوا علي قهوة 'نعناعة'** برحابة أهل البلد, و عبق سنين النضال مد يده لمصافحتي بابتسامة الطيبين قائلاً: - الفدائي 'عبد المنعم قناوي' من أبناء المقاومة الشعبية في السويس وسينا- أهلاً وسهلاً أستاذ عبد المنعم, تشرفت بلقائك- معلش, الناس كلها مشغولة في الاحتفال بالعيد, ورغم كده لو كنت زرت السويس قبل ما الإخوان يحكموا كنت شفت استعدادات للعيد أكتر من كده بكتير, بس من ساعة ما الإخوان حكموا السنة دي والناس صابتها حالة كآبة لسه مخلصناش منها رغم اننا خلصنا من حكم الإخوان- بس الإخوان يا أستاذ عبد المنعم بيقولوا انهم شركاء معاكم في مقاومة الاحتلال؟- ولا نعرف عنهم حاجة, أيامها يا بنتي ماكانش فيه الكلام ده ولا كنا نعرف حاجة اسمها اخوان, كنا بس مصريين لينا تار وعندنا هدف مصرين نحققه.- احكي لي يا أستاذ عبد المنعم عن انضمامك للمقاومة, كان عمرك قد إيه وانضميت ليها إزاي, وإيه أهم العمليات اللي شاركت فيها؟- انضميت للمقاومة في مايو 67, كان عمري وقتها 22 سنة, كنا بنشوف المعدات العسكرية المصرية بتعبر القناة للضفة التانية وكنا متأكدين اننا هنضرب العدو ونعلمه درس مينساهوش في حياته عن قوة المصريين وقدرتهم علي الردع, كان الجندي والضابط يعدي علينا وكله هيبة وفي عينيه إيمان بالنصر, لكن فجأة سمعنا خبر هز الدنيا وأشعل النار في قلوب كل المصريين 'نجح الطيران الإسرائيلي في ضرب الطيران المصري وتدمير جميع المطارات العسكرية والمدنية داخل جمهورية مصر العربية' وهو ما ترتب عليه رفع الغطاء الجوي عن قواتنا المسلحة الموجودة في سيناء, مما يستحيل معه دخول أي جيش لمعركة مهما كانت قوة أفراده, وبالتالي كانت النكسة, وقعت تفاصيل ما حدث علي مسامعنا كالصاعقة, وأصابتنا جميعًا بنوبات جنون, كيف لهذا الجيش الرائع العظيم -الذي شاهدنا بأنفسنا معداته وأفراده واستعداداته أثناء عبوره للقناة- أن ينهزم, وعرفنا أن أبناءنا من الجنود والضباط شردوا في الصحراء بعد ضرب معداتهم, شعرت وزملائي بالنيران تفور في أوردتنا فأسرعنا نحو بور توفيق وأخذنا اللنشات الخاصة بهيئة القناة ولنشات 'البمبوطية' 'البمبوطية هم من يبيعون السلع التذكارية للسائحين في البحر' ومن بور توفيق توجهنا لمنطقة عيون موسي ومنطقة الشط بطريق الإسماعيلية شرق القناة, ونزلنا نبحث عن الجنود والضباط الشاردين في الصحراء, وبدأنا ندور علي ولادنا في الصحرا, كان العسكري من دول نشوفه جاي من بعيد مش قادر يمشي وهدومه مهلهلة, بقاله أيام تايه وشارد من غير لا أكل ولا شرب, كنا ناخدهم نشربهم ينسون وحلبة, لإنه لو أكل حاجة بعد طول الوقت ده هيموت, وفضلت أنا واللي معايا كل يوم ننزل من صباحية ربنا لحد الليل لحد ما فقدنا الأمل اننا نلاقي حد تاني نجا من الصحرا, وسنة 68 اتكونت منظمة تحرير سينا انضميت ليها كان كل هدفنا كسر إرادة العدو اللي غدر بولادنا وببلدنا, كنا عاوزين نقول للعالم ان المصريين مش هيموتوا واننا أقوي من مدافعهم وطيرانهم, كنا عاوزين ناخد بتار ولادنا اللي اتشردوا وانضربوا غدر, عاوزين ناخد تار بلدنا, وهناخده.. وبدأنا ننفذ عمليات ضد العدو, معظمها كانت عمليات ليلية علي أهداف ثابتة, نراقب العدو بالنهار ونهاجمه بالليل وندمر مخازنه وذخيرته وننسف مستودعات الوقود ونزرع الألغام في طريقه ونقطع أسلاك الاتصالات بينه وبين قيادته.. ورغم اننا كنا مبهدلينهم لكن كل عملية كنا نفاجأ بكذبة جديدة من إعلام الصهاينة, كنا نبقي حارقين مخازنهم وقاتلين جنودهم ومدمرين مستودعاتهم ونلاقي الإعلام الكذاب بتاعهم يعلن للعالم ان القوات الإسرائيلية نجحت في القبض علي مخربين أثناء محاولتهم اجتياز منطقة بها قوات إسرائيلية, رغم اننا كنا نعمل العملية من دول ونرجع من غير ما حد فينا يحصله حاجة, هما كانوا بيحاولوا يكسروا الروح المعنوية للمصريين وللجيش المصري, وفي نفس الوقت يرفعوا معنويات جيشهم, وفضل كذبهم يضلل العالم لحد ما صدرت أوامر من عبد الناصر شخصيًا للمنظمة وتم تكليفنا من القيادة بالقاهرة يوم 5 نوفمبر 69 بضرورة تنفيذ عملية كبيرة وأسر جنود وضباط إسرائيليين لأن العملية هتتصور وتتعرض علي التليفزيون عشان العالم يعرف مدي كذب الصهاينة, وفعلاً, كنت ضمن إحدي مجموعات الاقتحام أنا والشهيد إبراهيم سليمان والشهيد سعيد الباشتلي.المكان: منطقة الشط شمال مدينة السويس بـ 8 كيلوالزمان: الثامنة إلا الربع صباح يوم 5 نوفمبر 1969المهمة: أسر وقتل الجنود الإسرائيليين وتدمير معداتهمالشفرة: جاموستين وجمل و10 بأف 'يعني: مدرعتين ودبابة و10 مجندين'دمرنا عربيتين نص جنزير ودبابة وقتلنا تسعة من جنودهم وضباطهم وأسرنا جندي منهم ورفعنا علم مصر فوق الموقع اللي كانوا متمركزين فيه لأول مرة يرفرف علي شرق القناة, في أول عملية تتم في وضح النهار, لذلك أطلق علي العملية اسم 'وضح النهار' وانتظرت القيادة في مصر رد فعل العدو الصهيوني وتعليقه علي العملية في وسائل إعلامه ولم نعلن عن العملية, كنا ندرك أنه سيكذب كعادته, وبالفعل أعلن التليفزيون الإسرائيلي وصحف العدو أن القوات الإسرائيلية تمكنت من إلقاء القبض علي مجموعة من 'المخربين' أثناء محاولتهم التسلسل نحو مواقع للجيش الإسرائيلي, وأنهم أحبطوا محاولات الاعتداء علي الموقع كما فعلوا كل مرة, وفوجئ العدو آنذاك بالتليفزيون المصري يعلن عن نجاح قوات خاصة في تنفيذ هجوم علي قوات العدو وتدمير معداته وقتل عدد من جنوده وأسر جندي آخر, وأذاع التليفزيون فيلمًا مصورًا للعملية وللقتلي وللجندي الذي تم أسره, ونشرت الصحف المصرية تفاصيل العملية.. 'أعطاني عم عبد المنعم قناوي بضعة أوراق وقصاصات من صحف قديمة, طغا عليها اللون الأصفر من طول الزمن, تتحدث الصحف عن عملية 'وضح النهار' حيث حمل المانشيت الرئيسي لصحيفة الدستور -الصادرة يوم الخميس 25 شعبان سنة 1389 هجرية الموافق 6 تشرين الثاني سنة 1969- خبرًا يقول: 'أكبر هجوم نهاري مصري عبر القناة.. مجموعة كبيرة من القوات الخاصة هاجمت دورية مدرعة للعدو وقتلت 9 إسرائيليين وأسرت واحدًا, وحينما حاول العدو الانتقام بالإغارة علي المواقع العسكرية المصرية في القطاع الجنوبي للقناة خسر طائرة' بينما حمل المانشيت الرئيسي لجريدة الأخبار عنوان 'هاجمنا في وضح النهار.. مجموعة كبيرة من قواتنا الخاصة عبرت القناة في الثامنة صباحًا, دمرنا دورية مدرعة للعدو بكامل معداتها في المنطقة المواجهة للشط, خسائر العدو: مقتل ضابط وثمانية جنود وأسر جندي مصاب, وعادت قواتنا سالمة بعد أن أحرقت دبابة ومدرعتين'يستكمل العم قناوي حديثه قائلاً: لقد أصبح العلم المصري الذي وضعناه علي الضفة الشرقية للقناة مزارًا سياحيًا آنذاك للقوات المسلحة, وكان لهذه العملية دورا بالغ الأهمية في رفع معنويات الجيش المصري الذي صمد في معارك الاستنزاف التي اشتدت بعد ذلك, وكذلك رفع معنويات المصريين الذين استعادوا الثقة في أنفسهم وفي قدرتهم علي استكمال الطريق إلي النصر ومساندة الجيش, وكذلك استطاعت 'وضح النهار' تدمير معنويات العدو وكشف كذبه أمام نفسه وشعبه وأمام العالم.لقد ظل العلم المصري يرفرف بهذا المكان منذ 5 نوفمبر 69 وحتي نهاية عام 72 حيث بلي بعوامل الجو والتعرية إلا أن الساري ظل باقيًا شاهدًا علي العملية حتي حررنا سيناء واستبدلناه بعلم جديد.وتطور العمل بعد ذلك لمهاجمة العدو الإسرائيلي شرق خليج السويس, ولأول مرة منذ بداية الصراع العربي الإسرائيلي يتم زرع رادارات بشرية في جميع أنحاء سينا, وكانت حرب الاستنزاف هي الطريق إلي نصر أكتوبر.- امتي خفت من الموت؟- مش هقولك كنا بنشوف الموت, لكن احنا كنا بنبحث عنه, ما كانش فيه حاجة بتخوفنا حتي الموت نفسه, الموت ماكانش بيخطر علي بالنا وأكتر حاجة كانت بتسيطر علي تفكيرنا هي هنخسر العدو معدات وأفراد قد إيه, والمعلومات اللي هنوديها للقوات المسلحة هتخدمهم قد إيه, وعشان الإيمان والإصرار ده محدش مات من مجموعتنا إلا اتنين: الشهيد مصطفي أبو هاشم قائد المجموعة, واستشهد يوم 9 فبراير سنة 70 في غارة إسرائيلية علي مركز تدريب, والشهيد سعيد الباشتلي, الذي استشهد برصاص قناص إسرائيلي يوم 31 مارس سنة 70, وكنا في عملية استطلاع في لسان بور توفيق, وقتها دفنا جثمان سعيد جنب جثمان مصطفي.- كنت أول من عبر إلي سيناء يوم 14 سبتمبر 1973 ونشرت عنك الكثير من الصحف بأنك أول من عبر القناة قبل عبور الجيش المصري وأطلق عليك آنذاك 'صقر السويس' فما هي تفاصيل تلك العملية وما هي حكاية ذلك العبور؟- تسللت إلي الضفة الأخري لجمع معلومات للجيش المصري عن المنطقة المتمركز فيها العدو, وحملت الكاميرا الخاصة بي والتي بواسطتها كنت ألتقط صور المواقع والمعدات والمجندين, ومعي جهاز اللاسلكي الذي كنت أستخدمه لبث رسائلي عبر إذاعة صوت العرب بشفرات متفق عليها, وعلمت وقتها أن هناك استعدادات من العدو لضرب مقر قيادة الجيش الثالث الميداني وتدميره, وكان بصحبتي أعرابي يساعدني في معرفة الطريق, وداخل دروب جبل عتاقة تمكنا من اكتشاف موقع إسرائيلي سري يوجد به أربعة جنود يرصدون مقر الجيش الثالث, وتمكنت من رصد موقعهم وتصويره وفور عودتي قابلت اللواء المرحوم عبد المنعم واصل الذي اتخذ قرارًا عاجلاً بنقل مقر الجيش الثالث إلي موقع آخر, وعندما شن الإسرائيليون هجومهم علي الموقع لم يكن به أحد ولم تكن به أية معدات, ففشلت مهمتهم.100 يوم في الجبل وحديأثناء عودة عبد المنعم قناوي من مهمته كانت السويس قد حوصرت, فاضطر للبقاء في الجبل مدة مائة وواحد يوم فوق جبل عتاقة, اختار حفرة تحت صخرة كبيرة لتكون مأوي له بعيدًا عن عين العدو, لم يكن معه آنذاك سوي طعام يكفيه لمدة خمسة عشر يومًا فقط و'جركن' مياه واحد, فحرص قناوي علي أن يأكل في يومه أقل القليل من الطعام ليبقي معه أطول وقت ممكن, أما الماء فقد نفد منه بعد عدة أيام, ويحكي العم عبد المنعم عن هذه الأيام قائلاً: كنت أعتمد علي قطرات الندي المتساقطة وقت الفجر علي صخور الجبل أو الماء المتجمع في الحفر الصغيرة نتيجة سقوط الأمطار, وكنا وقت الشتاء فقلّت حاجتي للماء, غير أن الشتاء كان يضيف متاعب من نوع آخر, فالجو كان شديد الصقيع والبرودة, ولم يكن معي غطاء سوي بطانية صغيرة كنت أنام في وضع الجنين حتي أستطيع تغطية جسدي كاملاً, وذات يوم اشتد الصقيع فتجمدت أصابعي وفقدت القدرة علي التعامل مع جهاز اللاسلكي فكسرت أحد أزراره, ومرةً أخري لم أتمكن من كتابة الشفرة لتجمد أصابعي, ولما نفد الطعام صرت آكل من حشائش الجبل, إلا أن بعض اللقاءات التي كانت تجري بالصدفة علي فترات متباعدة كانت تخفف وطأة الصقيع والوحدة حينما كانت تمر بعض دوريات الصاعقة المصرية التي تقوم بمهام قتالية في الجبل فيقدمون له بعضًا من طعامهم ودفء وطنيتهم ليكمل قناوي مسيرة مهمته ويعود لبث رسائله لقوات جيشه.اليوم.. ها هو عتاقة منتصبًا شامخًا يحمل بين صخوره وفوق تراب جبله حكايات وروايات لم يحكها الزمان بعد لأبطال لازالوا بيننا ربما نمر إلي جوارهم دون أن نرفع لهم أيدينا بالتحية والسلام, فهم من قدموا أرواحهم فداءً لنا ولوطننا.في إحدي الصور التي منحها لي العم قناوي, صورة لمدفع رشاش إسرائيلي محمولاً فوق عربة حديدية مصنوعة يدوياً هي عربة 'بائع الكوكاكولا' ويحكي العم قناوي عنها قائلاً: هذا الرشاش حصلنا عليه عندما تصدينا للهجوم الإسرائيلي علي المدينة يوم 24 أكتوبر, وهو اليوم الذي صار عيدًا للمدينة بعد ذلك, وقاومناهم نحن وأهل المحافظة حتي صرنا نطاردهم في الشوارع كما الفئران, وحينما حصلنا علي الرشاش كان لابد من عمل قاعدة حديدية له لنتمكن من استخدامه في عمليات المقاومة, وذهبنا إلي حداد لصنع القاعدة الحديدية, لكنه قال إنه سيصنعها ولكن بشرط, فاعتقدنا أنه سيطلب مبلغًا ماليًا إلا أننا فوجئنا به يطلب الاشتراك في العملية الفدائية التي سنقوم بها.حكاية عم طهأنا الفدائي محمود طه, عضو المنظمة العربية لتحرير سيناء, تلك المنظمة التي أنشئت تحت رعاية المخابرات المصرية, ذلك الجهاز الذي يسعي الأعداء اليوم إلي النيل منه, كان قائد المخابرات الحربية آنذاك هو اللواء إبراهيم نصار, ضمت المنظمة شباب مدن القناة وبدو سيناء والشباب الوطني علي مستوي الجمهورية, بدأت عملها بأربعة أشخاص فقط هم غريب محمد غريب, الذي شارك في العديد من العمليات الفدائية منذ عام 1956, وعبد المنعم حسن خالد, والشهيد مصطفي أبو هاشم ومحمود عواد.أدركنا أن هدف العدو الصهيوني هو امتلاك نصف قناة السويس كما احتل سيناء, فكان هدف مجموعتنا حماية القناة والشركات, كنا عبارة عن خلايا صغيرة لا يعرف بعضنا البعض, أحدنا كان محمد محمود اليماني الملقب بـ'ثعلب الصحراء' الذي اشتهر بأسره للجنود الصهاينة فكان يأتي بهم سحلاً فوق الأرض, ودارت عملياتنا علي أرض سيناء, وكان أحد أبنائها هو الشيخ عبد الله هجامة الذي لم يكن يعرف القراءة والكتابة, وحتي يستطيع رصد معدات العدو وعدد أفراده وإرسال هذه المعلومات إلي القيادة كان يميز الدبابة عن المدرعة بأسلوبه الخاص حتي لا ينسي أعدادها وحتي تصل معلومته صحيحة, كان يرمز للمدرعة بفرع شجرة قصير, وللدبابة بفرع شجرة طويل, وللجنود بأوراق الشجر, وهكذا كان يبلغ معلومته باللاسلكي.ويحكي عم محمود طه عن التدريبات التي كانوا يتلقونها في المنظمة فيقول: كنا نتدرب ماذا نأكل في الصحراء لو اضطررنا للحياة فيها لفترات طويلة دون طعام ولا شراب, فتعلمنا أكل الثعابين والفئران, وكان المدربون يلقون بنا في ترعة بها مواشٍ ميتة وعفنة ومليئة بالديدان لنظل داخل تلك المياه لفترات طويلة, لم يكن كل المتطوعون قادرين علي اجتياز تلك التدريبات الشاقة, بل فينا من انسحب من وسط الطريق إلا أن الغالبية أصروا علي استكمال التدريبات باعتبارها الطريق الذي سيدعم قوتنا لمواجهة العدو.وكنت ابنا وحيدا لعائلتي, لي الحق في الإعفاء من الخدمة العسكرية إلا أن الوطن غالاٍ وثمن تحريره لابد أن يكون غاليًا أيضًا وعلي الأحرار أن يدفعوه مهما بلغت صعوبته وقسوته.وكان العدو يستخدم الإعلام لكسر إرادة الجنود المصريين فيقوم بعرض أفلام توضح اعتداءاته وانتهاكه لحرمة النساء والبيوت, إلا أن ذلك أتي بنتيجة عكسية حيث زرع في قلوب الجنود وأفراد المقاومة الرغبة في الانتقام واسترداد كرامة الوطن والمواطن, وجاء الرد علي الأكاذيب الصهيونية بعملية 'وضح النهار' وكانت أول عملية أشارك فيها.- قال لي العم قناوي إنك شاركت في عملية إغراق الزورق الإسرائيلي الذي وضع علم الكيان الصهيوني فوق شط القناة, فكيف تم ذلك؟- حكاية وضع العلم علي شط القناة دي إسرائيل خسرت فيها أكتر من 25 عسكري, غير المعدات العسكرية والكلاب المدربة, كان معايا الفدائي حلمي حنفي شحاتة, بعد ما قتلنا اتنين عساكر وأسرنا التالت حاول يهرب من اللنش فرمي نفسه في الميه ورميت نفسي وراه, حلفت ما انا سايبه, وفضلنا نقاوح مع بعض لحد ما قبضت عليه.شاركت بعدها في صد العدوان الصهيوني علي السويس وتصديت مع مجموعات الفدائيين والأهالي لقوات العدو التي أرادت حصار المدينة, توجهنا لـ' السلاحليك' الخاص بالمستشفي العام بالسويس وأخدنا أسلحة الشهدا ووزعناها علي المقاومة والأهالي وكان معايا الفدائي محمد سرحان عبد العال –أول مرة نحتفل بعيد السويس من غيره السنة دي, الله يرحمه- هو اللي ضرب أول دبابة في الفوج اللي داخل يحاصر السويس فوقفت كل دبابات العدو بأفرادها علي الطريق وبقينا نصطاد جنودهم ويهربوا مننا زي الفئران, وبدأت حرب الشوارع وبدل ما كانوا عاوزين يحاصرونا حاصرناهم احنا, واتحولت شوارع السويس لمسرح حرب حتي حررناها.- بعد 40 سنة من النضال والمقاومة, شايف مصر إزاي؟- رغم كل اللي بيحصل إلا إن اللي جاي ان شاء الله أحسن, مصر بتكسب جيل جديد بيتشكل وعيه وفهمه وإدراكه ووطنيته, لما حصل انفجار في مديرية أمن شمال سيناء كنت هناك وشفت الأطفال بتجمع الشظايا وبيتحركوا في المكان, افتكرت لما حصلت ثورة يوليو وكنا صغيرين, وقتها كنا بنرمي علي عساكر الجيش 'الكراميل' والورد, واتربت جوانا الوطنية وعرفنا قيمة حب الوطن وازاي نحبه ونضحي عشانه حتي بالروح وبالدم, هي دي الوطنية اللي خرجت الشعب المصري من بيوته أيام تنحي عبد الناصر وقلناله 'ارجع' لإننا كنا عارفين قد إيه هو وطني وبيحب البلد دي.'نعناعة'كانت الشمس تقترب من المغيب, والبلدة تكاد تكون في حالة الهدوء التام, قالوا لي إن 'السوايسة' يرغبون في النوم وقت القيلولة, بعدها تنتفض السويس من جديد حتي الصباح, أما هم, أقصد 'المضيفين لي' فقد تركوا قيلولتهم وأتوا للقائي.. الفدائي السيد محمد منصف, عمره اليوم 67 سنة, يقول: شفنا كتير في حرب الاستنزاف, شلت زمايلي شهدا ولميت لحمهم بإيدي, أنا صياد عادي, بس لما حصلت نكسة 67 وقتها لقينا المخابرات بتطلب من ولاد البلد اللي ليهم خبرة في البحر يقوموا بمهمة إعادة العساكر الشاردة في الطريق, حسيت برعشة في جسمي, يعني إيه ييجي مسئول من الدولة يقول ان شباب البلد مرميين مش لاقيين حد يجيبهم, قلت: أنا جاهز, والشباب اللي معايا ردوا نفس الرد, كنا حوالي 6 اتحركنا بمراكبنا.طلعت بالمركب حوالي 20 مرة, قدرنا نرجع حوالي 350 ضابط وعسكري, بعد الموقف ده اتطوعت في المقاومة الشعبية, واتدربت علي السلاح وقتها أعلن عن تدريب راقي فانضممت إليه, وكانت هذه هي نواة المنظمة العربية لتحرير سينا, وأثناء قيامي بإحدي المهام وتوصيل ذخائر وألغام ومتفجرات من البر الغربي للبر الشرقي وبعد زرع الألغام وتنفيذ المهمة ألقي القبض علينا أثناء عودتنا وتم أسرنا في يناير 69وأفرج عنا في صفقة لتبادل الأسري.وعن الأسر حكي لي الفدائي أحمد حسن عروق, الذي تم أسره في نفس العملية ونقل هو ومجموعته إلي أبو زنيمة ومنها إلي أبورديس ثم إلي السجن الحربي 'السرفنت' الذي مكثنا فيه ثلاثة شهور كاملة تحت التعذيب المتواصل حتي يحصلوا منا علي معلومات لكنهم لم يأخذوا منا معلومة واحدة, وادعينا أننا سرقنا المركب الذي كنا عليه وأننا أتينا إلي البر الشرقي لجلب المخدرات, وبعد ثلاثة شهور من التعذيب في السجن الحربي تم نقلنا إلي سجن غزة ومنه إلي سجن 'أشكيلون' أي 'عسكران'وعندما مرضت تم تحويلي إلي سجن 'اللد'** فدائي آخر, هو محمد أنور حسن, حامل نوط مبارك ونوط محافظة السويس, هو أيضًا كان يعمل بمهنة الصيد, واستغل مركبه في نقل الذخيرة والأسلحة والمعدات للجيش والمقاومة, وذات يوم أثناء تأديته إحدي هذه المهام فوجيء بقوات الاحتلال تقترب من قاربه المليء بالذخيرة والألغام فاضطر لإلقائها في البحر, إلا أنه ألقي القبض عليه وظل في سجون الاحتلال شهورًا طويلة ولم يتخيل يومًا أنه سيعود إلي أرض الوطن حتي أفرج عنه في صفقة تبادل الأسري حيث أعادت مصر إثنان من الطيارين الصهاينة الذين تم أسرهم واستردت 58 صيادًا مصريًا معظمهم من رجال المقاومة الشعبية.عندما سألت عن أسماء ضباط المخابرات المصريين الذين أشرفوا علي إنشاء منظمة تحرير سيناء وتدريب الفدائيين أصر العم منصف والعم أنور علي عدم ذكر أسماء أي منهم حتي من فارقوا الحياة, فقلت لهم مبتسمة: 'يا عم محمد خلاص الكلام ده فات عليه سنين وأسامي الضباط اتعرفت لأن التاريخ لازم يكرمهم لأنهم أبطال' لم تقنعهم كلماتي وأصرا علي ضرورة الاحتفاظ بالسرية بل إن كلا منهما أوصي الآخر بالكتمان في الحوار, كان أهم ما يميزهم جميعًا إصرارهم علي ذكر أسماء زملائهم من الفدائيين خاصةً من استشهدوا كنوع من الوفاء والتكريم لهم.وقبل أن أغادر منحني المناضل 'حسين العشي' كتابه 'خفايا حصار السويس' والذي يحمل بين طيات صفحاته الكثير من الحكايات والصور عن معارك السويس وبطولات أهلها, تلك المعارك التي لم يكرمها التاريخ بعد كما تستحق, كتاب 'العشي' من أروع ما كتب عن ملاحم النضال وأساطير كفاح 'السوايسة' في طريقهم لتحرير الأرض.. ما زال الماضي حاضرًا بهيبته وأسراره وتفاصيله في أذهان وقلوب صانعيه, تركتهم ومضيت, حاملةً صور الشهداء التي أعطاها لي 'العم قناوي' ومعها أوراق وقصاصات الجرائد القديمة التي أضفي عليها الزمان لونه الأصفر الباهت, بينما ابتسامة الشهيد المناضل مصطفي إبراهيم السيد لا تزال تضيء صفحته, مازالت مطبوعة فوق أوراق تاريخ منحني القدر شرف أن تكون اليوم بين يدي
أبطال المقاومة الشعبية يحكون أساطير النضال بالسويس